توصل مشروع بحثي معمق للمفوضية المصرية للحقوق والحريات عن العدالة الجنائية في مصر، إلى أن: “مُعظم التعديلات التشريعية الصادرة – سواء من مجلس الشعب أو من رئيس الجمهورية بموجب سُلطة التشريع الممنوحة إليه بشكل استثنائي- في الحقبة الأخيرة، قد أهدرت ضمانات المُحاكمة العادلة، وأخلت بالضوابط التي يجب أن تكون مُحققة في المُحاكمات الجنائية، بداية من مرحلة ما قبل المُحاكمة، والتي تتضمن ضوابط القبض والتفتيش والاحتجاز، والاستعانة بمُحام، وكذلك استجواب المُتهم من قبل سُلطة التحقيق، ومن ثم صدور أوامر بالحبس الاحتياطي والتظلم منها، وإحالة الدعوى إلى المحكمة، مروراً بالضمانات التي يجب تحققها في مرحلة المُحاكمة ذاتها كالحق في المُساواة أمام القانون والحق في النظر العلني للقضايا، والحق في افتراض البراءة وحق الدفاع وحق مُناقشة الشهود، والحق في الطعن على الأحكام الصادرة”. امتد المشروع لسنوات ونشرت نتائجه من أيام قليلة، إلا إنه لم يواكب التغييرات الأخيرة في مشروع قانون الإجراءات الجنائية المثيرة للجدل.
قدر لكاتب هذه السطور، أن يعاين بنفسه بعضا، مما انتهت إليه المفوضية المصرية من نتائج، وقد أطلقت عليها مبكرا – خلال فترة سجن العقرب سيئ السمعة التي امتدت من أكتوبر ٢٠١٥ إلى إبريل ٢٠١٩- لفظ “الاستباحة”.
لفظة الاستباحة – عادة- ما تستخدم في الحروب. استباح الجُنْد المدينة: استولوا عليها حربًا، واعتبروا كل شيء مباحًا لهم من نهب وسلب، وهي تقع في الأعراض والأموال والأرض والحرمات. استباح الأمرَ: عدّه مباحًا غير ممنوع، أقدم عليه. وقد تعني الإبادة: اسْتَبَاحَ كذا: استأْصله.
وبرغم ثراء هذه الدلالات اللغوية؛ إلا إني استخدمها في هذه السلسلة من المقالات، باعتبارها مفهوما تحليليا، يمكن أن يشرح ويحلل السياقات الأوسع لتطور مفهوم العدالة في مصر بشكل عام، والجنائية منها بشكل خاص.
يتكامل مع مفهوم الاستباحة عدد من المفاهيم الضرورية لتمام فعل الاستباحة من قبيل: نزع الإنسانية، وحرمان المسجون/المتهم من المشروعية القانونية التي عادة ما تنتهي بسحب المواطنة الكاملة عنهم- كما جرى في منع بعض من الدياسبورا المصرية “من اضطروا للخروج من مصر” من تجديد جوازات سفرهم، وتخيير مزدوجي الجنسية من المصريين بين السجن، وبين التنازل عن مصريته، بالإضافة إلى ما تضمنه قانون الإرهاب من حرمان من كثير من الحقوق والحريات…إلخ.
كانت هذه المفاهيم، وغيرها من المفاهيم التي ستأتي عليها هذه المقالات، ضرورية لخلق الاستثناء الكامل تجاه المسجونين، وأساسا يمكن أن يساعد في تفسير تورط أفراد كثر ومؤسسات متعددة في الاستباحات، واستمرار وتيرتها، وتنوع أشكالها، وعدم تواني أو تراجع أجهزة إنفاذ القانون عن الولوغ فيها، برغم تحلل البيروقراطية المصرية، وتآكل كفاءتها، وتطاول الزمن (نحن نقارب الآن ما يزيد على عقد من السنين)، والأهم هو القدرة على التوسع فيها بانتقالها من استباحة المعارضين السياسيين إلى استثناء عموم المصريين من جملة حقوق وحريات وضمانات قانونية ودستورية.
نشرت الباحثة العمرانية المتميزة أمنية خليل، معطيات تفيد بتهجير 2.8 مليون شخص من القاهرة الكبرى على مدار العقد الماضي. كان الإخلاء قسريا وعنيفا، طبعته العديد من المخالفات والانتهاكات ضدّ الأهالي من قوات الشرطة- على حد قولها. تضيف أن الهدف كان: ” ضبط الشعب وتأديبه من خلال حياة عمرانية منضبطة”، وهي بالمناسبة نفس الرسالة التي كان مطلوبا، أن تصل إلى المجال القانوني والتشريعي، والسياسي والاقتصادي، وكذا الاجتماعي والديني.
تحتاج استباحة دولة يوليو ٢٠١٣ إلى تفسير؛ فهي- في تقديري- وإن ورثت بعض تقاليد دولة يوليو ٥٢، وما قبلها، إلا إنها تمثل نقلة نوعية مختلفة، تجد تفسيرها في أربعة عوامل:
١- لحظة التأسيس التي كان جوهرها هو استرداد الدولة من المصريين أساسا بعد انتفاضة يناير ٢٠١١، ومن “غزو الإخوان” تاليا- ذلك الوافد الجديد على الدولة المصرية التي أتت بأول رئيس مدني (وليس عسكريا) انتخابات حرة ونزيهة لأول مرة بعد ٥٢، وأخيرا وليس آخرا؛ من طبقة رجال الأعمال التي تكونت في ظل لجنة السياسات أواخر عهد مبارك، ومن مجموعة استفادت من ضعف الدولة، ما بعد يناير لتملك أدوات متعددة- مالية وإعلامية وسياسية- للتأثير على توجهات ما بعد الانتفاضة، بغية تحقيق مصالحها الذاتية ومصالح قوى إقليمية ودولية.
٢- ودعمتها أيديولوجية، استندت إلى مفاهيم متعددة من قبيل حفظ الدولة- التي تعلو فوق الطبقات، وعقيدة الأمن القومي الذي تحول إلى مفهوم شامل، غامض ومتسع، [من اللطائف، أن وكيل نيابة أمن الدولة طلب مني تعريفا للمفهوم؛ لأني كنت- على حد زعمه- متهما بتهديده!]، وتصور للأمة المصرية، باعتبارها كيانا عضويا موحدا… وغيرها من المفاهيم. وأخيرا وليس آخرا؛ فإن الحرب على الإرهاب؛ قد مثلت ركنا ركينا في فهم وتفسير سر الاستباحة، وهو ما نشرحه بالتفصيل في الاستراتيجيات.
٣- إدراك معين لطبيعة الدولة المصرية وعقدها الاجتماعي؛ متحررة من إرث دولة يوليو ٥٢، ومتطلعة لعلاقة جديدة مع المجتمع، تتخفف فيها من أعبائها، وراغبة في الاندماج في نظام إقليمي ودولي، يجري به إعادة صياغة موازين القوى بين مكوناته، والأهم طبعة نيوليبرالية في الاقتصاد والنظام المالي.
إن وراء التحركات التي يقوم بها النظام الحالي رؤية للتعامل مع إدارة الدولة والموارد والمجتمع، تبغي التعامل مع ثلاثة أهداف أساسية، وهي 1) الاندماج الدولي، والتكامل الإقليمي، 2) والتحديث على النمط الخليجي الذي تمثل فيه دبي درة التاج، 3) والنمو الاقتصادي لا التنمية.
تمثل هذه الرؤى والأفكار التي باتت تعنون تحت مسمى “الجمهورية الجديدة“، نوعا من الافتراق بين الوضع القديم (دولة يوليو ٥٢، وما آلت إليه في طبعة مبارك ١٩٨١ -٢٠١١) وأصوله الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبين الوضع الجديد؛ بسبب عدم قدرة الوضع القائم على التعامل مع الاحتياجات الداخلية، سواء احتياجات النظام أو الدولة أو المجتمع، والاحتياجات الخارجية سواء الإقليمية والدولية.
يظهر هذا الاختلاف بشكل أساسي في ثلاثة عناصر، وهي:
التحول من الدولة القومية المستقلة إلى دولة اندماجية (ضمن نظام إقليمي وعالمي، بما يتضمن من نمط جديد لإدارة الأرض والموارد)؛ وفى اتجاه النمو: الخروج من النيل إلى الساحل، وفي التحديث: من الهوية المحلية إلى الهوية المتعددة والإقليمية.
القانون وفق هذا السياق، يجب أن يُفهم في إطار أوسع، يتعلق بتصورات جديدة، ليست استمرارا لطبعة يوليو ٥٢- وإن تبقت بعض سماتها.
استخدم لاستكمال فعل الاستباحة استراتيجيات متعددة، كان بعضها راسخا في تقاليد الدولة المصرية لعقود، ولكن تم تطويرها وإضافة أخرى، بما يمكن معه القول، إنها باتت هيكلية، تستمر معنا لسنوات. استمرار الاستثناء لمدى زمني طويل يحوله إلى طبيعي أو عادي. سنحتاج إلى جهد كبير للعودة، إلى ما قبله -الذي لم يكن على أي الأحوال حافظا للعدالة. نحن بالطبع في هذه المرحلة، لا نتحدث عن تقويض أو تفكيك هذه الاستراتيجيات.
سنت الدولة المصرية العديد من القوانين، وأنشأت العديد من الآليات القانونية والممارسات والسياسات؛ ردا على التهديدات الأمنية المزعومة الناتجة عن الاحتجاجات ضد النظام والحرب على الإرهاب. توسعت الدولة في النطاق الزمني للحبس الاحتياطي بموجب المرسوم رقم 38 لسنة ٢٠١٣، وسُن قانون مكافحة الاحتجاج رقم ١٠٧ لسنة ٢٠١٣، وقانون مكافحة الإرهاب رقم 49 لسنة ٢٠١٥، وإنشاء دوائر قضائية خاصة داخل المحاكم الجزائية لمحاكمة الأعمال الإرهابية والاحتجاجات غير القانونية، وتعديل قانون الخدمة المدنية في مصر الذي يقضي بفصل العاملين بالجهات التابعة للدولة، والذين يثبت انتماؤهم لجماعة الإخوان المسلمين أو المتعاطفين معها أو الذين يعتنقون أفكارًا مناهضة للدولة، ومؤخرًا؛ مشروع تعديلات قانون الإجراءات الجنائية.
اكتمل البناء القانوني بسرعة، وتكاملت حلقاته وتضافرت، وهو بالمناسبة ما لم يتعامل معه مشروع المفوضية، باعتباره كلا واحدًا. نظرت المفوضية إلى كل قانون على حدة، دون بيان العلاقات بينهم، ودور كل منهم في بناء منظومة الاستباحة.
اجتمع على النظام العقابي للجمهورية الجديدة عدد من المقاصد، وهي التي رسمت مسار العدالة الجنائية في مصر بعد ٢٠١٣: التحكم والسيطرة والإخضاع بغية استرداد الدولة، ومواجهة الاضطرابات التي أعقبت يناير ٢٠١١، ودمج رجال الأعمال في النظام الجديد، أو تحييدهم بالاستبدال، ومجابهة الإخوان كأكبر قوة سياسية منظمة- تحت دعاوى الحرب على الإرهاب، وضبط حركة المجتمع السائلة في الاقتصاد والعمران والدين والقيم، وتنظيمها، لتكون معدة للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية، وإعداد الدولة والمجتمع للاندماج في المشاريع الإقليمية والدولية ذات الطبعة الرأسمالية… وهو ما أعرض له بالتفصيل في المقال القادم.
أما المقالات التالية؛ فأخصصها للاستراتيجيات التي اتبعها النظام لإنتاج العدالة المفقودة في مصر. تتبدى هذه الاستراتيجيات في التشريعات والسياسات، وكذا الإجراءات والقرارات، وهو ما ينبغي أن نعتني به؛ لأنه سيستمر معنا عقودا، ونحتاج إلى جهود ممتدة لتفكيكه وتقويضه. هذه الاستراتيجيات تخلق التكامل والتناسق بين المكونات المتعددة لمنظومات الاستباحة، وأظن أنها أحدثت النقلة النوعية التي نشهدها على مدار العقد الماضي في فقدان العدالة الجنائية.