الحرب الإقليمية الواسعة، ليست محتمة، لكنها أيضا ليست مستبعدة.

قد تتمدد كتل النيران المشتعلة في غزة ولبنان إلى مناطق أخرى في الإقليم.. أولها إيران، لكنها لن تتوقف عندها.

مصر ليست مستبعدة، والخليج ليس في مأمن.

أمام جموح آلة الحرب الإسرائيلية وأهدافها المعلنة وغير المعلنة من تصعيد الاشتباكات المسلحة، لا يصح استبعاد أي احتمال، أو نفي أي خطر.

باسم “خطة الجنرالات”، تتأكد سيناريوهات التهجير القسري إلى سيناء.

الخطة تنطوي على سحق أي مظهر للحياة في شمال غزة، حتى يصبح شبه محتم، إخلاؤه من سكانه ودفعهم بإرهاب التقتيل الجماعي لقرب الحدود المصرية؛ انتظارا لضربة قاضية.

كان مستلفتا تأكيد رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” لوزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن”، بأنه لن ينفذ تلك الخطة، لكنه رفض، أن يعلن هذا الالتزام علنا.

هذه الخطة تعني المضي قدما في سيناريو احتلال غزة، وإخلائها من سكانها وبناء مستوطنات إسرائيلية فوقها و”التهجير القسري” إلى سيناء في نهاية المطاف.

الخطر ماثل بقوة، والحرب قد تكون محتمة، وإلا ضاعت سيناء، وتقوضت أهم ركائز الأمن القومي المصري.

لا يملك نظام حكم في مصر، أيا كانت توجهاته وسياساته، أن يتجاهل الآثار المدمرة لمثل هذا التطور الخطير، والحرب سوف تفرض كلمتها بقوة الحقائق.

الصمت ليس خيارا والرهان على معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، ليس له محل.

إذا أرادت مصر، ألا تمتد النيران إليها، أو ألا تجد نفسها طرفا في حرب إقليمية، لا يريدها أحد باستثناء الحكومة الإسرائيلية الأكثر يمينية في تاريخ الدولة العبرية، فعليها أن تتصرف بحزم في الملفات الملغمة على حدودها الشرقية، وليس على الطريقة التي أدارت بها أزمتي، معبر رفح، ومحور فيلادليفيا.

في الأولى، اكتفت بتسجيل المواقف والتلويح في الغرف المغلقة بتعليق “كامب ديفيد”، تعليقا لا إلغاء، غير أن تضارب التصريحات المعلنة أفقد ذلك التلويح أثره، حتى وصلنا إلى احتلال المعبر من الجانب الفلسطيني وإحكام الحصار على غزة.

وفي الثانية، أفضت المقاربات إلى استهتار إسرائيلي إضافي بالبروتوكولات الأمنية الموقعة وفق اتفاقية “كامب ديفيد” بذريعة منع تهريب السلاح.

إذا أردت أن تحفظ السلام، أو ما يمكن أن تطلق عليه تجاوزا السلام، فعليك أن تستعد للحرب.

الحرب ليست مسألة تتحمل مسئوليتها القوات المسلحة وحدها.

إنها مسألة مجتمع يحتاج أن يتماسك ويصحح أوجه الخلل الفادحة في السياسات المتبعة، التي أفضت إلى خلخلة ظاهرة في بنيته وثقته في مستقبله.

كانت الدعوة، التي أطلقها رئيس الوزراء “مصطفى مدبولي” لـ “اقتصاد الحرب”، قبل أن يحاول تصحيح آثاره الوخيمة على الاقتصاد ومناخ الاستثمار، تعبيرا عن رؤى مرتبكة في إدارة الدولة.

ربما قصد التقشف في الإنفاق العام، لكن ثقافته السياسية لم تساعده.

لا يمكن أن يكون البلد قادرا على الوفاء بمتطلبات مواجهات عسكرية محتملة في أجواء محتقنة، وشبه يائسة وجفاف إعلامي فادح، وتدهور لا يمكن إنكاره في الحريات العامة.

مصر ليست دولة صغيرة، تجلس في مقاعد المتفرجين، تتابع نذر النار حولها، دون أن تنتبه لمخاطرها المحتملة، وتعمل على سد الثغرات الماثلة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا في جبهتها الداخلية، إذا ما فرضت عليها حربا، لا يمكن استبعادها.

يصعب الرهان على إدارة “جو بايدن” في نزع فتيل الحرب المحتملة.

نحن أمام إدارة استنزفت صلاحيتها ووقتها، فالانتخابات الرئاسية الأمريكية على بعد أقل من أسبوعين.

لم تكن جولة “بلينكن” الحالية للمنطقة سوى محاولة للإيحاء بالحركة لمقتضى التوظيف الانتخابي، أو ربما إكساب “نتنياهو” وقتا إضافيا؛ لإتمام خطته في تدمير كل متطلبات الحياة بغزة المحاصرة.

التدمير ثم التدمير، ولا شيء آخر غير التدمير؛ لجعل الحياة مستحيلة والتهجير ممكنا.

قال “بلينكن”- مرارا وتكرارا- إن هناك فرصة لإحراز تقدم في مسار المفاوضات بعد مقتل “يحيى السنوار” زعيم حركة “حماس”، مدعيا أنه كان العقبة الرئيسية أمام التوصل إلى صفقة.

بدا كلامه إعادة إنتاج لطلب الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين في غزة، وضرورة إدخال مساعدات إغاثية عاجلة إليها، دون أن يكون جادا أو مستعدا لتقبل وقف مستدام لإطلاق النار.

إنها محاولة كسب وقت حتى يستكمل “نتنياهو” مذابحه في غزة.

كان مثيرا للالتفات دعوة رئيس الشاباك إلى هدنة محدودة، يتم خلالها استعادة أغلب الأسرى.

إنه نفس تفكير “نتنياهو”، التخلص من صداع الأسرى، دون أدنى استعداد؛ لوقف مستدام لإطلاق النار، على ما تطالب “حماس”، حتى لا تخسر الورقة الرئيسية بحوزتها مجانا.

بذات التوقيت، مضت مهمة المبعوث الأمريكي “عاموس هوكشتاين” في الاتجاه نفسه.

كلاهما، “بلينكن” و”هوكشتاين” موال لإسرائيل.

الأول، عندما حضر إلى تل أبيب يوم الثامن من أكتوبر (2023) قال، إنه هنا بصفته يهوديا.. والثاني، خدم ضابطا في الجيش الإسرائيلي.

وكلاهما، يتبنى الإطار العام لتفكير “نتنياهو” والخلافات تنحصر في التكتيك.

كانت الأفكار، التي حملها “هوكشتاين” إلى بيروت، أقرب إلى مشروع استسلام، يمنح إسرائيل حرية العمل في المجال الجوي اللبناني، ويدخل تعديلات غير مباشرة على القرار الأممي (1701).

تبنى المبعوث الأمريكي كامل التصور الإسرائيلي، على ما عبر عنه وزير الدفاع “يوآف جالانت”: دفع حزب الله إلى خلف نهر الليطاني، بما قد يسمح باحتلال شريط حدودي من الجنوب اللبناني.

هذا مشروع تمديد للحرب، لا إنهائها.

إننا أمام محاولة لإنجاز الأهداف الإسرائيلية من الحرب على لبنان بالضغط والتفاوض، بعدما فشلت أن تحققها بالوسائل العسكرية، ولحقت بها خسائر بشرية، يصعب تحملها على مدى منظور.

لا تخفي إسرائيل أهدافها ونواياها.

حسب وزير ماليتها المتطرف “بتسلئيل سيموتريتش”، فإن حدود “الدولة اليهودية تشمل أراضي في الأردن وسوريا ومصر والعراق والسعودية”، بالإضافة إلى كل الضفة الغربية وغزة.

وحسب المرشح الجمهوري “دونالد ترامب”، فإن “حدود إسرائيل الحالية صغيرة عليها”.

المعنى، إنه إذا كسب الانتخابات الرئاسية؛ فسوف يتبنى خطة اليمين الإسرائيلي المتطرف.

إننا أمام استراتيجيات معلنة، لا خزعبلات سياسية.

لا يصح بأي حال أن تتجاهل مصر الأخطار المحدقة والنيران المشتعلة في محيطها الاستراتيجي بالمشرق العربي، حيث أمنها القومي المباشر.

إذا فرضت إسرائيل وصايتها على لبنان، فإن مصر سوف تتعرض لما هو أفدح، وتخسر ما تبقى لها من هيبة في إقليمها.

السؤال الأخطر الآن: الضربة الإسرائيلية المنتظرة لإيران.. ما حدودها وتداعياتها؟

إذا أفلتت الضربات المتبادلة عن أي قيد، فإننا داخلون لا محالة إلى حرب إقليمية واسعة.

بالمقام الأول، فإن إسرائيل تعمل على زعزعة النظام الإيراني وإسقاطه، لا مجرد توجيه ضربات مهندسة أمريكيا، يمكن التحكم في تداعياتها.

الحسابات معقدة ومتداخلة، وتستدعي التحوط بالاستعداد للحرب، حتى لا نفاجأ بها تطرق أبوابنا.