اجتمعت في لحظة انبعاث نظام يوليو ٢٠١٣، أربعة مكونات رسمت للسلطة الجديدة مساراتها:
١- انتفاضة يناير التي كان جوهرها استعادة الدولة لعموم المصريين
أبرزت يناير، أن الدولة المصرية كيانا هشا، غير مصمت، محلا للصراع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بين فئات اجتماعية متعددة، وشبكات امتياز مصطرعة. كان المظهر الذي تبقى من يناير بعد سنتين من اندلاعها هو: قدرة المصريين على التظاهر في المؤسسات لاستجلاب مصالحهم، فيما أطلق عليه خطأ “المطالب الفئوية”، وفي الشوارع ضد السلطة القائمة، وبعض مؤسساتها، ومجموعة من رجال الأعمال الذين امتلكوا تأثيرا ونفوذا سياسيا وإعلاميا، ومؤسسات مجتمع مدني متنوعة النشاط، استطاعت أن تطلق كثيرا من المبادرات؛ مستفيدة من مناخ الحرية وتوفر التمويلات من مصادر متعددة.
٢- بيان ٣ يوليو ٢٠١٣ الذي رسم مسارا جديدا للشرعية الدستورية. كان النظام الجديد حريصا على سرعة العودة للشرعية الدستورية والقانونية لاعتبارات تخص القبول والاعتراف الدولي أساساً، ولنفي صفة الانقلاب؛ استفادة من المظاهرات الشعبية التي جرت ضد حكم الاخوان في ٣٠ يونيو.
٣- التفويض؛ وأقصد به طلب القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع في يوليو ٢٠١٣ (الذي سيصبح رئيسا للجمهورية بعدها بعام) بتفويض الشعب له بمحاربة الإرهاب.
مع التفويض؛ تم تأطير هذا التهديد، باعتباره تهديداً وجودياً للدولة المصرية، لا يمكن التعامل معه إلا من خلال المشاركة الشعبية في دعم النظام الجديد، الذي سيتحول لاحقا إلى انخراط في القمع، عبر ما أطلق عليه “المواطنون الشرفاء”.
يجادل أحمد عزت، أن “دمج المواطنين الشرفاء في السلطة السيادية للأجهزة الامنية ساعد على استعادتها بسرعة. ساهمت هذه الفكرة في ولادة السلطة السيادية من جديد التي اهتزت بشدة خلال يناير”.
تمكن النظام من حشد الدعم الشعبي الجماهيري، ليس فقط من قاعدته الشعبية، بل وأيضاً من قطاعات كبيرة من السكان الذين وقعوا فريسة للخوف من الفوضى الاجتماعية.
أدى تجنيد المجتمع بأكمله في عملية إعادة بناء النظام القانوني إلى إسكات بعض شرائح السكان المصريين، أو التواطؤ في الانتهاكات المرتكبة في البلاد، أو عدم المبالاة بها.
٤- الدعم الإقليمي من بعض دول الخليج أساساً، والذي تركزت مساندتهم في مراحلها الأولى على المعونات المالية، التي تحولت بالتدريج إلى استثمارات واستحواذات، تتطلب بيئة قانونية مواتية، والأهم استقرارا سياسيا للنظام، يضمن مصالحهم المالية، ولا يهدد عروشهم.
أهداف النظام العقابي
امتزجت هذه اللحظات الأربع معا؛ لتحدد مقاصد وغايات النظام العقابي للجمهورية الجديدة:
١- إنتاج أشكال من السيطرة والتحكم والإخضاع، ليس في مواجهة الفاعلين والناشطين السياسيين والاجتماعيين ورجال الأعمال فحسب، بل في مواجهة المجتمع ككل، بغرض استرداد الدولة وحفظها، باعتبارها كيانا مصمتا يعلو فوق الجميع، ولا يكون محلا للصراع الاجتماعي، وإنما موضعا للامتياز لفئات محددة، ومحدودة.
النظام له منطق واضح من خلال قسوة العدالة الجنائية وهو: رفع تكلفة أعمال المعارضة البسيطة إلى الحد الذي يضمن الإغلاق الكامل للمساحة العامة، وضمان استمرار التحكم والسيطرة والإذعان من الجميع.
لقد تمكن النظام من إطلاق العنان لمستويات غير مسبوقة من العنف الجماعي؛ ليس فقط لقمع المعارضة، ولكن أيضًا لإبقاء الصراع الاجتماعي تحت السيطرة، مما رفع تكلفة أعمال التحدي البسيطة إلى مستويات غير مسبوقة.
٢- تحقيق قدر من التماسك بين مكونات تحالف الحكم، وترضيته من خلال المكانة المركزية التي تحتلها، ما يطلق عليه “الأجهزة السيادية” في الصرح الحالي للدولة المصرية.
استثمر النظام بكثافة في بناء بنية تحتية معقدة من القمع [تتبع ماجد مندور هذه البنية في كتابه من السجون الضخمة إلى أنظمة المراقبة، ومشاريع الهندسة الحضرية القسرية والتشريعات… إلخ.
احتلت استباحة العدالة الجنائية موقعا متقدما في استكمال هذه البنية؛ إذ أضفت مشروعية قانونية تدثرت بها هذه البنية، وجعلت تكلفة المعارضة مرتفعة للغاية- كما قدمت، بغض النظر عن فعل المعارضة ذاته.
سمح عنف الدولة للنظام بتعزيز الدعم بين قاعدته الشعبية، وربط تحالفه الضيق به، في رابطة، تشكلت في بوتقة الخوف والتفزيع من الاضطرابات الاجتماعية، والحرب علي الإرهاب.
٣- يقع الاقتصاد السياسي في قلب هذه العملية من زوايا عدة، يمكن الإشارة فيها إلى ملمحين مهمين:
الأول: وهو تحول المجتمع أو المصريين إلى تهديد. لأول مرة تتعامل الدولة مع المصريين، باعتبارهم تهديدا؛ ليس من زاوية الاحتجاج ضدها، ولكن أيضا من تهديدهم لمكونات الجمهورية الجديدة الثلاث: التحديث، والاندماج الإقليمي، وطبعة خاصة للنمو الاقتصادي- جوهرها نيوليبرالي.
عملية التغيير الموسع هذه- التي كان عنوانها الجمهورية الجديدة- تستهدف إعادة بناء الدولة بأبعادها الثلاثة، الأرض، والإدارة، والمجتمع، وتوسيع سلطتها وسطوتها لإحكام عملية السيطرة والضبط، وتنمية قدراتها ومواردها، واستقلالها عن الجماهير لصالح عملية التحول الإقليمي والدولي، بغية الاندماج في الرأسمالية الإقليمية والدولية.
ولأن عموم المصريين غير مندمجين لا في الثروة ولا في السلطة، لذا فهم دائماً ما يتم تصنيفهم كخطر بغضّ النظر عن حقيقة أفعالهم، وهو ما يجعل “البطش استباقي الطابع ومسرحيّ التمظهر”، على حد قول مندور.
يشير علي الرجال إلى كيفية نشأة الاستثناء تاريخيا: “في الحالة المصرية، ولأن أغلب قوى العمل سائلة الطابع، فقمعها يجري على أساس يومي وسائل. ولأن الكتلة السكّانية أيضاً غير منظّمة لا في المكان ولا في الزمان، فإن البطش هو الآخر شديد السّيولة ودائم، وغير محدّد بزمان أو مساحة.” يضيف: “تاريخ مصر الحديث هو تاريخ من الاستثناء الدائم الذي لم يكنْ في أغلبه موجّها للقمع السياسي لا من حيث أهدافه القانونية أو توجّهات الحكم. الاستثناء كان موجّها لحكم عموم السكان على أساس يوميّ، فلم يقم بنزع الحالة القانونية عن الأفراد، ولكنه خلق إطارا قانونيّا، سمح بإطلاق يد الدولة البوليسية في حكم المجتمع”. يكمل الرجال: “في هذه الحالة تصبح الدولة البوليسية صمام أمان لضمان هذه الترتيبات الاقتصادية والاجتماعية”.
الدولة المصرية في نشأتها الحديثة، تعيش وتمارس وتتأسس على الاستثناء، وهي كما تمارسه مع السياسيين؛ فإنه يستخدم من مدخل الاقتصاد السياسي لصياغة السياسات الاقتصادية، بما يسمح بخلق ترتيبات محلية؛ تؤدي إلى الاندماج في السوق العالمي، وتعيد توزيع الثروة لصالح فئات محددة.
هكذا؛ أصبح الاستثناء متأصلا في بنية الدولة. صارت هذه الأخيرة غير قادرة على إنفاذ الحكم والسيطرة، بدونه.
الثاني: وهو ما أشار إليه عزت من خلال خبرة مبارك في التسعينيات من القرن الماضي؛ حين نشأ الاستثناء لحماية الاندماج النيوليبرالي، وصيانة مصالح الطبقة الرأسمالية الناشئة بقمع أي معارضة لاحتكار الطبقة الجديدة للثروة والسلطة السياسية.
إن توسع الدولة العقابية داخل النظام النيو ليبرالي الدولي هو مظهر من مظاهر الوجود الكلي للدولة، وهو أمر ضروري لحماية المصالح والمستفيدين من هذه الأنظمة، ممن يهددها.
في الجمهورية الجديدة؛ تعمق وجود نظامين قانونين، الأول يقوم على الامتياز، ويتأسس على الاستثناء، نشأ في مواجهة قطاع عريض من المصريين، والثاني معياري، وهو ما يحكم أساساً المجالات التي تضمن الاندماج النيوليبرالي، وبرغم وجود هذين النظامين- الذي تحتاج العلاقة بينهما إلى دراسة- إلا أن الضمانات في الثاني تعتبرها بعض الأطراف غير كافية، بما يتطلبه من اللجوء للاستثناء أيضا- كما برز مؤخراً في اتفاقية حماية الاستثمارات السعودية.
٤- خلق التجانس بين المكونات الدينية والأخلاقية /القيمية، بل وحتى الشكلية والسلوكية التي يعج بها المجتمع (الوزن الزائد والتدخين مجرد أمثلة).
تم تطوير تفسير رسمي للإسلام، وتفسير رسمي للتقاليد الاجتماعية والأخلاق، ومواصفات قياسية لما ينبغي أن يكون عليه شكل المصريين والمصريات- تشرف الأكاديمية العسكرية على متابعته داخل البيروقراطية وفي المدارس… بغية تحقيق الهيمنة الثقافية والاجتماعية، وليس السياسية أو الاقتصادية فقط.
قدمت مقاربات أقل تعددية للهوية الوطنية والخطاب الديني والممارسات الاجتماعية، وتم دمج السلوك الاجتماعي في سلطة الدولة التي يتم التعبير عنها من خلال رجال ومؤسسات إنفاذ القانون. جرى إشاعة الطريقة التي تُفهم بها هذه الممارسات بشكل متزايد من قبل سلطات الدولة، التي رأت في الخلافات، ليست مجرد مسائل تتعلق بالضمير أو الحرية الشخصية، ولكن باعتبارها قضايا أمن قومي، يمكن أن تهدد “الوحدة الوطنية”، أو “السلام الاجتماعي”، أو “قيم الأسرة المصرية”.
انتقلت الطبعة الدينية التي اخترقتها المحافظة الاجتماعية للمجتمع المصري البيروقراطية الدولة ومؤسسات إنفاذ القانون، وتأثر بها التشريع- كما ظهر في مشروع قانون الأحوال الشخصية.
يهدف النظام إلى فرض نسخته الخاصة عن الإسلام، وهي نسخة خاضعة لسيطرة الدولة ومتجذّرة في القيم الاجتماعية المحافظة، باعتبارها أداةً للسيطرة الاجتماعية. إنه فكر محافظ وأبوي جدًا، والأهم من ذلك، شديد السلطوية، وهذا يمنح النظام مستوى غير مسبوق من السيطرة والسلطة الاجتماعيتَين.
تم- على سبيل المثال- استخدام الاتهامات بـ “ازدراء الدين” في محاولة؛ لترويج مبادئ سلطوية ومحافظة جدًا. وهذا بدوره يضمن الامتثال الاجتماعي والإذعان للدولة، باعتبارها حامية هذه القيم، التي تصبح في النهاية أداة محافظة؛ لتثبيت الاستقرار الاجتماعي.
إن الدعوات للتجديد الديني تندرج في إطار محاولة النظام تثبيت مركزية السلطة في يده من خلال فرض نسخة هرمية للإسلام مدعومة من الدولة، ومتجذّرة في القيم الاجتماعية المحافظة.
تحققت هذه الغايات والمقاصد عبر عدد من الاستراتيجيات. بعضها يخص طبيعة العلاقة بين النظام والدولة والرئاسة، ومنها ما يتعلق بالعصف باستقرار المركز القانوني للموظف العام، مع حمايته من المساءلة عن اقتراف الانتهاكات. رسخت سلطة التقدير التي تضافرت مع غموض كثير من المفاهيم القانونية التي شاعت في النظام العقابي المصري، وامتزج ذلك كله بطول المدة وبقسوة العقوبات، والدمج بين مؤسسات إنفاذ القانون والقضاء على استقلالها عبر آليات متعددة لاستكمال وتمام فعل الاستباحة… كل هذا وغيره سيكون محلا لمقالاتي القادمة.