أثار عزم واشنطن على صرف المعونة العسكرية كاملة للقاهرة، ردود فعل متباينة، ما بين الدهشة والحيرة، حيث أن الوضع الحقوقي في مصر لم يتحسن بشكل ملحوظ، وتظل العديد من الانتهاكات مستمرة، مثل الحبس الاحتياطي المطول والتضييق على الحريات، وانتهاك حقوق المحتجزين.

للوهلة الأولى، قد يبدو القرار مفاجئا، ففي السنوات الماضية، حجبت واشنطن حصصا من المساعدات لعدم استيفاء القاهرة الشروط المتعلقة، بإحراز تقدم في ملف حقوق الإنسان.

ولكن قرار صرف المعونة كاملة، ليس مفاجئا، بل يعكس النمط الذي يحكم العلاقات الأمريكية- المصرية المستمر حتى اليوم، بلا تغيير يذكر، رغم التحولات السياسية العالمية والإقليمية والداخلية.

هذا النمط المتجذر لعقود، يرتكز على أهمية موضع مصر الاستراتيجي للمصالح الأمريكية في المنطقة، مما يترتب عليه التغاضي عن ملف حقوق الإنسان في العلاقات الثنائية، خاصة وقت الأزمات، مثلما هو الحال اليوم مع استمرار وامتداد حرب غزة.

لصالح الأمن القومي

هذا العام قررت الإدارة الأمريكية صرف المعونة كاملة لمصر، بلا استقطاعات ترتبط بالوضع الحقوقي. و فسر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، القرار بأنه لصالح “الأمن القومي الأمريكي”.

وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، أن القرار يساهم في تحقيق السلام الإقليمي وأولويات الولايات المتحدة في المنطقة، وشدد على التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في غزة وعودة الرهائن ووصول المساعدات للفلسطينيين، وإنهاء الصراع بين حماس وإسرائيل.

بجانب الأسباب الأمنية، بررت الخارجية الأمريكية القرار، بأن مصر أحرزت تقدما في ملف حقوق الإنسان بالإفراج عن بعض السجناء السياسيين، والسعي للإصلاح التشريعي، خاصة فيما يتعلق بالحبس الاحتياطي، إضافة إلى إنهاء قضية المجتمع المدني برفع تجميد الأصول وحظر السفر.

ورغم الذرائع التي قدمتها الإدارة الأمريكية، لاقى القرار انتقادات داخلية حادة. أعضاء من الكونجرس، خاصة الديمقراطيين. و شدد كريس ميرفي، على أن وضع حقوق الإنسان في مصر لم يتحسن، و أشار إلى أن استقطاع جزء من المعونة في السنوات السابقة لم يضر العلاقات الاستراتيجية مع مصر.

وأشار الأعضاء المعارضون أيضا، إلى أن التقرير الأخير لحقوق الإنسان الصادر من وزارة الخارجية الأمريكية أكد استمرار انتهاكات حقوق الإنسان في مصر في قضايا، تتعلق بقتل خارج نطاق القضاء والتعذيب والاختفاء القسري، وسوء أوضاع السجون وتقييد الحريات.

حجب شكلي

يتضمن القانون الأمريكي للمساعدات الخارجية مواد، تمنع تقديم مساعدات أمنية لقوات دول تضلع في “انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان”. ولكن ظلت تلك المواد غير مؤثرة على المعونة المقدمة لمصر، برغم انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها الأنظمة السياسية المتعاقبة. فمنذ توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، تعطي واشنطن مصر سنويا الـ 1.3 مليار دولار، مبلغ المعونة كاملا.

 استمر الوضع على هذا الحال حتى 2014، عندما ربط الكونجرس بين حصة من المعونة وتحقيق شروط، تتعلق بحقوق الإنسان. ولكن يظل من حق الإدارة الأمريكية تخطي الكونجرس، والإفراج عن الجزء المحجوب تحت ذريعة اعتبارات الأمن القومي.

إجمالي الجزء المرتبط بحقوق الإنسان قدره 320 مليون دولار، 225 مليون منهم مرتبطين بشروط حقوقية، مثل ضمان الحريات وسيادة القانون، و95 مليون متصلين بإحراز “تقدم واضح وثابت في إطلاق سراح السجناء السياسيين، وتوفير الإجراءات القانونية الواجبة للمحتجزين، ومنع مضايقة وترهيب المواطنين الأمريكيين”.

ولأول مرة، عام 2017، حجبت واشنطن 95.7 مليونا، مع تأجيل صرف 195 مليونا، ولكن الإدارة أفرجت عن المبلغ المؤجل العام اللاحق. ثم خلال إدارة بايدن في السنوات الأخيرة، أصبح استقطاع جزء من المعونة قرارا متكررا.

العام الماضي صرفت الادارة الامريكية 235 مليون وحجبت 85 مليون. وقتها رأت الادارة الامريكية أن المصالح القومية الامريكية لها الأولوية على أوضاع حقوق الانسان، خاصة فيما يتعلق بدور مصر في محاربة الإرهاب وإعادة الاستقرار في دول المنطقة مثل السودان وليبيا. والعام الذي سبقه أيضا حجبت واشنطن 130 مليون وأفرجت عن الباقي.

ربما قد يمثل قرار ربط جزء من المعونة بحقوق الإنسان تطورا ملحوظا في العلاقات الأمريكية- المصرية، ولكن لم يترتب على تطبيقه تبعات تهدد العلاقات الاستراتيجية بين البلدين.

فصرف الجزء الأكبر من المعونة ظل مستمرا، بدون أي اشتراطات حقوقية. وحتى فيما يخص الـ 320 مليونا، من الملاحظ أن واشنطن خلال السنوات الماضية استقطعت حصصا ضئيلة للغاية من المبلغ، ليتحول قرار حجب المعونة من أداة ضغط؛ لتحسين أوضاع حقوق الإنسان، إلى مجرد إشارة رمزية يرضي بها البيت الأبيض الرأي العام— الداخلي والخارجي— الذي يضغط على واشنطن لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها حكومة حليفة.

تعاون أمني مستدام

خلال العقد الأخير، تغيرات عديدة طرأت على النظم والقيادات السياسية في القاهرة وواشنطن على حد سواء، ولكن التحالف الاستراتيجي بين البلدين تواصل بلا تقلبات جسيمة تهدد العلاقة التاريخية. عقب يوليو 2013، توترت العلاقات مؤقتا، عندما جمدت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما المساعدات العسكرية. ولكن سرعان ما عادت العلاقات لسابق عهدها؛ لتفرج إدارة أوباما عن المعدات العسكرية المعلقة؛ معللة القرار وقتها بكونه يصب في مصلحة الأمن القومي الأمريكي.

ثم خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، تجاهل البيت الأبيض حقوق الإنسان في السياسة الخارجية تجاه مصر، وهذا ما انعكس في دفء العلاقات، حيث عبر ترامب عن دعمه للرئيس المصري، وأثنى على أدائه في عدة مناسبات.

ثم جاء بايدن متعهدا، بأنه لم يكن هناك “شيكات على بياض” للرئيس المصري، كما كان الحال سابقا خلال عهد ترامب. ولكن لم يمر وقت طويل، حتى أخلف بايدن وعده. فبرغم أن المسئولين في إدارة بايدن ينتقدون السجل الحقوقي لمصر علنا، ويؤكدون أنهم مستمرون في الضغط؛ لتحسين الوضع، ولكن سياسات الإدارة على أرض الواقع، تخالف هذا الخطاب.

خلال السنوات الماضية، رغبة إدارة بايدن بصرف المعونة، بدون استقطاعات، لاعتبارات الأمن القومي، دائما ما كانت تصطدم مع سعي الكونجرس لحجب الحصة لعدم استيفاء مصر الشروط الحقوقية، مما كان ينتهي بمواءمة بين الطرفين.

كما أن الحصص التي حجبتها إدارة بايدن طيلة السنوات الأخيرة، ظلت محدودة. وتدريجيا، مع مرور كل عام، تناقص الجزء المحجوب حتى صُرف المبلغ كاملا هذا العام.

من المفارقات أيضا أن صفقات السلاح مع مصر خلال إدارة بايدن استمرت كسابق عهدها، بل وازدهرت. فبالتزامن مع حجب مبالغ ضئيلة من المساعدات، كانت الإدارة الأمريكية تمد مصر بأسلحة بمليارات الدولارات. إجمالي صفقات السلاح التي وافقت عليها إدارة بايدن، وصلت إلى 6.1 مليارات عام 2023، لتتخطى قيمتها إجمالي الصفقات التي وافق عليها ترامب (5.3 مليارات). ومن بين الصفقات التي وافق عليها بايدن، صفقة ضخمة بقيمة 2.5 مليار دولار عام 2022، ولقد وافق عليها البيت الأبيض بعد شهور قليلة من قرار تجميد الـ 130 مليونا من المساعدات.

تحولات وثوابت

التغيرات السياسية خلال العقد الأخير، تعدت مجرد تعاقب النظم والقيادات السياسية المختلفة، لتشمل تطورات ملحوظة في موازين السياسية الإقليمية.

أولا: لقد ضعف النفوذ المصري في الإقليم بشكل ملحوظ. فمع مرور السنوات تراجع الدور القيادي المصري وتأثيره تدريجيا. والاقتصاد المتأزم يفاقم هذا التراجع. ومع أفول نجم مصر، صعدت أطراف خليجية؛ لتصبح مراكز قوة جديدة في المنطقة.

ويتضح من تقارير خدمة أبحاث الكونجرس خلال السنوات الماضية، منها تقرير 2024 الأخير، أن واشنطن تضع في الاعتبار تراجع المكانة المصرية في الإقليم. فتجادل التقارير، أن مصر فقدت موقعها القيادي، وأنها أصبحت تلعب “دورا سياسيا وعسكريا أصغر” من السابق.

ثانيا: في السابق احتلت مصر مكانة متميزة لكونها القوة الإقليمية الأولى (والوحيدة وقتها) التي توقع اتفاق سلام مع إسرائيل. ولكن مصر لم تعد القوة الوحيدة بعد إبرام اتفاقات إبراهام التي طبعت العلاقات بين دول الخليج وإسرائيل. الإمارات من أبرز تلك الدول، فالعلاقات الأمنية والاقتصادية والسياسية مع إسرائيل تتطور بوتيرة سريعة، وبشكل معلن، على عكس التطبيع المصري- الإسرائيلي الذي ظل مساره باردا وبطيئا لعقود طويلة. كما أنه من المرتقب، أن تنضم الرياض، التي تمثل مركز قوة هام في العالم العربي والإسلامي، إلى قائمة الدول المطبعة مع تل أبيب.

ولكن برغم تلك التغيرات السياسية والاستراتيجية لا يزال الدور المصري محوريا للولايات المتحدة، وهذا يرجع لعدة أسباب.

تتحكم مصر بقناة السويس، الممر البحري الهام في حركة الملاحة والتجارة الدولية. مصر أيضا تمثل أكبر دولة من حيث عدد السكان بين الدول المتحدثة بالعربية، ولهذا عدم استقرارها سيكون له تبعات سلبية على استقرار المنطقة بأكملها، وقد تؤجج أزمة لاجئين من الصعب احتوائها.

كما أن التعاون الأمني بين واشنطن والقاهرة، الذي يتضمن حصول القاهرة على معدات وتدريبات عسكرية، يدخل في إطار الحفاظ على أمن المنطقة ومحاربة الإرهاب، خاصة في سيناء. تضمن القاهرة أيضا أولوية مرور السفن العسكرية الأمريكية في قناة السويس، بالإضافة إلى حقوق التحليق للطائرات الأمريكية خلال المجال الجوي المصري، مما يعزز العمليات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط. كما تستضيف مصر مناورات النجم الساطع، التي تعد من أطول وأكبر التدريبات المشتركة التي تنظمها الولايات المتحدة في المنطقة.

تلعب مصر أيضا دورا مركزيا في الحفاظ على أمن إسرائيل، حليف واشنطن الأهم في المنطقة، بحكم موقع مصر الملاصق للحدود الإسرائيلية. فتسعى الولايات المتحدة للمحافظة على السلام التاريخي بين البلدين وترسيخه. وهنا الجدير بالذكر، أن التعاون الأمني بين إسرائيل ومصر وصل لمستويات غير مسبوقة في السنوات الأخيرة، مما يجعل واشنطن أكثر حرصا على الحفاظ على استقرار النظام السياسي المصري، والعلاقات القائمة مع إسرائيل. فلقد سمحت إسرائيل للجيش المصري بنشر المزيد من القوات في شمال شرق سيناء برغم قيود معاهدة السلام في هذا الشأن. كما أن القاهرة سمحت للطائرات والمسيرات الإسرائيلية بالقيام بعمليات داخل سيناء ضد الجماعات الإرهابية.

وأخيرا، تسعى الولايات المتحدة للتوصل لحل ينهي حرب غزة التي طالت، واتسع نطاقها لتقوض الاستقرار الإقليمي، وبالتالي أصبح الصراع يضر بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة. ومصر كمفاوض تاريخي بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، تمثل طرفا هاما في الجهود الرامية لتهدئة الأزمة. خلال الحرب الجارية، يظهر الدور المصري جليا في المفاوضات الساعية، لإنهاء الحرب والتخطيط لمستقبل غزة ما بعد الحرب.

وفي هذا السياق، تشكل حرب غزة فرصة قد تغتنمها القاهرة للضغط على واشنطن؛ من أجل التساهل في ملف حقوق الإنسان مع طلب المزيد من المساعدات الأمنية. ففي مارس الماضي نقل موقع بوليتيكو عن مصادر مصرية وإسرائيلية، بأن القاهرة طلبت من واشنطن، أن تمدها بتمويل أمنى ومعدات لتأمين الحدود؛ استعدادا لتدفق اللاجئين المتوقع عقب اجتياح إسرائيل البري.

لا جديد تحت شمس العلاقات الأمريكية -المصرية

قرار صرف المعونة كاملة، لا يمثل انقطاعا عن سياسات الإدارة الأمريكية تجاه مصر، المستمرة منذ عقود، وحجب المعونة الشكلي في السنوات القليلة الماضية، لم يهدد يوما التحالف بين البلدين.

فلقد ظلت العلاقات الأمريكية- المصرية الاستراتيجية ثابتة غير متأثرة بانتهاكات حقوق الإنسان بمصر أو التحولات في السياسية الإقليمية.

موضع مصر الجيو سياسي والتاريخي في المنطقة يجعل القاهرة شريكا حيويا يضمن المصالح الأمريكية في الإقليم، مما يجعل ملف حقوق الإنسان في الداخل المصري مجرد مسألة ثانوية لا يتناولها البيت الأبيض على محمل الجد، خاصة عندما تصطدم مع تحقيق المصالح الامريكية.

وقد تتجاهل واشنطن انتهاكات حقوق الإنسان كليا، إن استدعت الضرورة، كما هو الحال الآن مع تمدد واستمرار حرب غزة.