جدد فوز المرشح الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأمريكية دونالد ترامب الاهتمام الدولي بمواقفه، والتوقعات تجاه كافة القضايا المتشابكة في العالم، لا سيما أن لترامب فترة رئاسة سابقة (2017 -2021)، عُرف عنه فيها مواقفه الحاسمة في ملفات عدة مثل، المواجهة مع الصين والدفاع عن الاقتصاد الأمريكي بإجراءات حمائية، وقضايا الهجرة إلى بلاده وغيرها.

إفريقيًا فإن ترامب، الذي يستهل فترة رئاسته الثانية، وهو يناهز الثمانين عامًا، من أكثر الرؤساء الأمريكيين صرامة في معاملة قادتها، ووصل إلى حدود ازدراء أغلبهم بعبارات غير لائقة.

كما اتسمت فترة إدارته الأولى منذ البداية بتجاهل واضح للقارة وقضاياها (Brookings, January 2, 2018)، وغلبت الرؤية الأمنية تقريبًا على “الملف الإفريقي” الذي ظل رهين أدراج مكتب البيت الأبيض في عهد ترامب.

غير أن القرن الإفريقي وقضاياه كانت حاضرة في واشنطن، أمنيًا وعسكريًا على الأقل، قبل ساعات من إعلان هزيمة ترامب في الانتخابات قبل السابقة أمام غريمه الديمقراطي جون بايدن بإقدام رئيس الوزراء الإثيوبي آبي احمد، على إعلان الحرب على إقليم التيجراي، والذي تواكب مع وصول بايدن للرئاسة وتعامله مع سياسات الأمر الواقع في الإقليم بدرجة توحي بتواطؤ مفهوم (مع أديس أبابا)، واتساقًا مع سياسات واشنطن التقليدية بترك الأزمات تصل إلى حافة الهاوية، لا سيما في الأقاليم المهمشة دوليًا مثل، القرن الإفريقي.

وهكذا، فإن عودة ترامب تمثل هاجسًا مهمًا في تحولات القرن الإفريقي، وما يتعلق منها بمصر في هذا المقام، في الأعوام الأربعة المقبلة، مع ملاحظة أن آخر التصريحات الهامة لترامب عندما كان رئيسًا (أكتوبر 2020) تجاه واحدة من أعقد الأزمات الإقليمية بين إثيوبيا ومصر، وهي مسألة “سد النهضة”، كانت صادمة ومفاجئة لجميع المراقبين بتأكيده، أن مصر لا يمكنها الحياة في ظل (وجود) سد النهضة، وأنها قد تفجره، ما اعتبرته الخارجية الإثيوبية وقتها تحيزًا من ترامب لمصر.    

الجمهوريون وإفريقيا: سياسات جديدة؟

شهدت إدارة ترامب الأولى توجهات أمريكية صارمة تجاه القارة، شملت خفض بعض المخصصات المالية وتقييد الهجرة، كما أبدت تحفظًا تجاه قانون الفرص والنمو الإفريقي Agoa (الذي يوفر إعفاءات جمركية لصادرات الدول الإفريقي إلى الولايات المتحدة في قطاعات محددة مثل، الملابس والمنسوجات)، ولم تقر استمرار العمل به إلا في ظل تخوفات من تغول النفوذ الصيني داخل القارة، ومن غير المعروف، هل سينفذ ترامب تعهده السابق بوقف نفاذ القانون بمجرد نهايته العام المقبل أم لا؟

وحسب تحليلات أمريكية مهمة (The Royal United Services Institute for Defence and Security, March 17, 2021)، فإن الحزب الجمهوري لم يعتمد بعد هزيمته في انتخابات نوفمبر 2020 أية منصات أو أطرا جديدة؛ لإحداث تغيير، كان مرتقبًا في سياساته الخارجية بعد الهزيمة، مع ملاحظة استمرار هيمنة ترامب على مقدرات إدارة الحزب بشكل تام.

وتحليلنا لتلك الخلاصة يتجه إلى تصور ثبات السياسة الأمريكية تجاه إفريقيا من فترة إدارة ترامب السابقة، وأن أية تغييرات قد يعلن عنها في ظل إدارة ترامب الثانية ستكون بمثابة رتوش بسيطة للغاية، ووفق مواءمات المصالح الأمريكية وضروراتها بطبيعة الحال، والتي تتعلق بالدرجة الأولى بالتنافس الدولي في القارة، وليس وفق إطار علاقات ثنائية “متكافئة” بين الولايات المتحدة والدول الإفريقية.

ومن ثم، يمكن القول إن واشنطن- ترامب ستواصل تهميش القارة الإفريقية بشكل واضح، وأن أي دعم اقتصادي- تنموي ستوافق عليه واشنطن؛ سيكون في الحدود الدنيا ومتعلق بشكل أساسي بتفادي خسارة واشنطن مزيد من التأثير في القارة، لا سيما في الدول الكبيرة (مثل جنوب إفريقيا ونيجيريا ومصر) لصالح الصين، أو حتى عدد من القوى المتوسطة الفاعلة في إفريقيا. كما أن قضايا كان يروج لها الديمقراطيون مثل، المشروطية الديمقراطية، وملف حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات الإثنية والهوياتية، ستتوارى بشكل كبير في عهد ترامب.

ترامب والقرن الإفريقي: حسم الملفات العالقة؟

ورغم هذا الحكم الإجمالي بالنسبة لعموم القارة الإفريقية، فربما يصبح ترامب في فترته الثانية الجديدة الرئيس الأمريكي الأبرز، في العقود الأخيرة منذ مطلع التسعينيات على الأقل، الذي يقارب قضايا القرن الإفريقي بنوع من الحسم والبرجماتية الصريحة/ الصادمة، وبدرجة أقل من الانصياع ” للغطاء الأيديولوجي” الذي شكل سياسات الإدارة الديمقراطية في عهد بايدن، لا سيما تجاه نظام رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، ذو الانتماءات البروتستانتية الواضحة، والتغاضي عن وقوع مئات الآلاف من القتلى في حربه التي شنها ضد إقليم التيجراي في الساعات الأولى من نهاية إدارة ترامب عمليًا (نوفمبر 2020)، دون إقدام واشنطن على أية خطوات حقيقية (كانت في متناولها)؛ لوقف حرب الإبادة الأكبر في إفريقيا منذ مذابح الهوتو والتوتسي في إقليم البحيرات قبل أكثر من ثلاثة عقود، مضافًا لها وقوعها على يد نظام “منتخب ديمقراطيًا”، وحصل رأسه على جائزة نوبل للسلام قبيل المذابح مباشرة.

فمن المرتقب توجيه ترامب في فترته الثانية اهتمامه للقرن الإفريقي لعدة أسباب من بينها تقاطع اهتماماته العسكرية والأمنية في إفريقيا، والتي ستمثل الهاجس الأول لإدارته، لا سيما بعد تمتع الحزب الجمهوري بأغلبية مجلس الشيوخ، ما يؤشر على سلاسة عملية صنع القرار لصالح الخيارات العسكرية المرتقب.

كما أن تشابك الأزمات العسكرية والأمنية في القرن الإفريقي، ومنها تنامي ظاهرة الإرهاب وفق رؤية واشنطن، مع الأزمة المستحكمة في اليمن والمدخل الجنوبي للبحر الأحمر، يعززان اشبتاك قوي لإدارة ترامب في الملفات الأمنية والعسكرية ومكافحة الإرهاب على سواحل القرن الإفريقي، وربما داخل إثيوبيا أو دول أخرى في الإقليم حال تمدد التهديدات الإرهابية إليها.

كما ستواجه إدارة ترامب مع أيامها الأولى إعلان الصين مسار سياساتها الخارجية تجاه إفريقيا وفي القلب منها القرن الإفريقي، حسبما سترسمه محطات جولة وزير الخارجية الصيني التقليدية مطلع كل عام.

وقد عمقت الصين بالفعل علاقاتها وتوازناتها مع أغلب دول القرن الإفريقي على حساب، ما كان يعد تحيزًا كاملًا للعلاقات مع إثيوبيا: علاقات متميزة مع الصومال وإريتريا وجيبوتي وانفتاح على علاقات أوثق مع السودان مع تراجع ملموس في أفق العلاقات مع إثيوبيا، كما يتضح في موقف الصين من ملف دعم إثيوبيا للتقارب بين تايوان و”جمهورية ارض الصومال” المطالبة بالانفصال عن جمهورية الصومال الفيدرالية.

ومن غير المتوقع بأي حال، أن يدعم ترامب مثل هذه المطالب الانفصالية، أو أن يدعم إثيوبيا في توجهاتها داخل القرن الإفريقي والساعية في المقام الأول إلى فرض “الهيمنة الإثيوبيانية” على كافة دول الإقليم من باب “التعاون الإقليمي” الذي لم تنجز فيه خطوات حقيقية على الأرض، رغم اقتراب العام السابع من قيادة آبي أحمد لبلاده ومناداته بهذا التعاون كأولوية في أجندته.

ترامب والتوجه المصري نحو القرن الإفريقي ماذا عن السد؟

يتوقع أن يحظى التوجه المصري الذي دشنته القاهرة منذ مطلع العام الجاري تجاه القرن الإفريقي والانخراط في مسائل دعم قدرات الدولة (في الصومال وإريتريا)؛ لمواجهة تحدياتها المختلفة، وإرسال قوات لحفظ السلام في الصومال (الأمر الذي حظي بتقدير أمريكي ملفت، لا سيما أن الولايات المتحدة تتصدر لائحة دول شركاء الصومال المعنية بتنمية قدراته العسكرية والأمنية)، واتخاذ موقف متشدد من استكمال مفاوضات إدارة، وتشغيل سد النهضة “دون وضع أطر ملزمة وزمنية واضحة لهذه المفاوضات”،

يتوقع أن يحظى كل ذلك بدعم إدارة الرئيس ترامب، دون أية تحفظات تذكر؛ فمصر أثبتت جدارة بالشراكة مع الولايات المتحدة في ملف الأمن البحري في البحر الأحمر بأداء تقني “وسياسي” رصين للغاية، لا يتوفر لأية دولة أخرى من دول البحر الأحمر، لا سيما في ساحله الإفريقي.

وفي المقابل فإن موقف إدارة ترامب السابقة (2017 -2021) من ملف بالغ الحساسية مثل، سد النهضة، كان حاسمًا للغاية، بل إن المفاوضات التي رعتها وزارة الخزانة الأمريكية، كادت أن تثمر اتفاقًا ملزمًا في الملف ينهي عقدا كاملا من النزاعات “التفاوضية” بين أديس أبابا والقاهرة، أنذرت في نهاية إدارة ترامب باحتمالات اندلاع “حرب مفتوحة” بين البلدين. ومن هنا، فإن التفاهم المصري الأمريكي، وفي ضوء الصلة المتميزة في واقع الأمر بين الرئيس ترامب والرئيس عبد الفتاح السيسي، سيمثل أساسًا قويًا لانخراط أمريكي أكبر في الملف؛ سعيًا وراء حسمه وفق القواعد الدولية المعروفة (عدم إلحاق الضرر بدول المصب والاستخدام العادل لمياه النيل وفق معايير نزيهة).

كما ستعول واشنطن على الأرجح على مقاربة مصر في القرن الإفريقي (والتي نجحت فيها بالعلامة الكاملة في تكوين اصطفاف مع الصومال وجيبوتي وإريتريا والسودان خلف دعم سيادة الدولة وأمنها ومواجهة التهديدات التي تحيط بها) كأحد أدوات إدارة ترامب لدعم الاستقرار والأمن في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، لا سيما، أن صعودًا إقليميًا لدولة بحجم مصر، وفي حدود خطوط السياسات الأمريكية، سيمثل في جميع الأحوال قيمة مضافة لهذه السياسات في إفريقيا بشكل عام وفي الإقليم الفرعي المشار له على وجه الخصوص.

ولا يحول ذلك دون وجود مخاوف على القاهرة، أن تلاحظها فيما تتوثق علاقاتها مع واشنطن في فترة ترامب الثانية ومنها:

  • – أن دعوات ترامب لقبول “عمل عسكري” مصري ضد أهداف تمثل تهديدًا لمصر، لن تكون- حال تكرارها تصريحًا أو تلميحًا- دعوات مجانية وبدون تكاليف خطيرة، لا سيما ما يرتبط بها من مكانة مصر الإفريقية وحسابات توازن هذه المكانة بحجم المخاطر أو التهديدات التي تمثلها هذه “الأهداف”.
  • – على القاهرة من الآن ترتيب أوراقها، وبشكل أكثر جدية ومهنية، للتعامل مع سيناريو دعوة واشنطن لإعادة التفاوض حول سد النهضة؛ بهدف درء حجج الطرف الإثيوبي والحيلولة، دون تدخل أطراف إقليمية خليجية داعمة لأديس أبابا، أثبتت التجربة (طوال ماراثون المفاوضات “الدائرية”) أنها حالت دون تأمين مصر مصالحها في مجمل إقليم القرن الإفريقي، وفي ملف سد النهضة تحديدًا في أكثر من مناسبة.
  • – مراعاة القاهرة لعامل الوقت المتاح أمامها لحسم قضاياها المصيرية في الإقليم، لا سيما مع انشغال متوقع في الرياض لسيناريوهات التعامل مع إدارة ترامب، رغم البادرة الطيبة التي أبداها الأخير تجاه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، خلال حملته الانتخابية الأخيرة.
  • – ضرورة استمرار الدور المصري النشط في إعادة ترتيب الأمن في البحر الأحمر حتى جنوب الصومال، وتوطيد القاهرة علاقاتها مع مراكز هامة مثل نيروبي والخرطوم وأسمرا، وألا تكون الاندفاعة المصرية الراهنة في القرن الإفريقي (الكبير) موقوتة بملف وحيد: سد النهضة.
  • يتوقع أن تعتمد القاهرة ورقة سياسات إفريقية واضحة ومعلنة، تمثل مرجعًا هامًا لسياسات القاهرة، وتحظى بمقبولية مرتقبة في أوساط إفريقية مختلفة المستويات للحيلولة، دون خلط الأوراق والأدوار قدر الإمكان.

خلاصة

تمثل عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لقيادة بلاده مطلع العام المقبل هاجسًا إفريقيًا كبيرًا في ضوء شخصيته المباغتة وقراراته الحاسمة، رغم ما تبدو عليه من “عشوائية”.

إذا وضعنا في الاعتبار استمرار تهميش القارة الإفريقية في عهد سلفه بايدن، (رغم ما أعلنه من أن إدارته استثمرت نحو 22 بليون دولار في إفريقيا؛ فإن ذلك يظل رقما بالغ الضآلة، ولا يعبر عن قوة الولايات المتحدة المفترضة في القارة)، فإن خيارات قادة القارة في التعامل مع ترامب تظل عادلة إلى حد كبير على الأقل من جهة، أنه ليس هناك ما سيخسره أغلب هؤلاء القادة بالفعل في علاقاتهم بواشنطن.

وبالنسبة للقرن الإفريقي وموقف مصر المرتبط بقضاياه، فإن السيناريو يبدو أكثر تفاؤلاً بالنسبة للقاهرة، التي لا بد وأن الطمأنينة كانت انطباعها الأول عقب إعلان فوز ترامب، وأكثر صعوبة بالنسبة لأديس أبابا، لا سيما، إذا أعاد ترامب النظر بقرارات آبي أحمد قبل أكثر من أربعة أعوام، وهو سيناريو قائم وغير مستبعد بالمرة.     

  •