لم تأبه السلطة المصرية، بما أٌبدي على مشروع قانون الإجراءات الجنائية خلال شهرين ماضيين من أوجه نقد أو ملاحظات فنية وقانونية، ومخالفات حقوقية ودستورية، نالت من قيمة وقوة مشروع الإجراءات الجنائية، فعلى الرغم من كثرة الأوراق البحثية والحلقات النقاشية التي عقدت لمناقشة مشروع القانون، وما خرج فيها من توصيات، إلا أن الحكومة عازمة، وبشكل جدي على إصدار ذلك القانون بكل ما به من ملاحظات، أبداها العديد من النقابات المهنية والمؤسسات الحقوقية، وعلى الرغم مما أظهرته الدراسات الناقدة لذلك المشروع بحسبه مخالف للعديد من القيم والمبادئ الدستورية والحقوقية، وبما به من إخلال بحقوق المواطنين في العديد من النقاط الأساسية والجوهرية.
فمنذ يومين عاود مجلس النواب المصري جلسات انعقاده مناقشاً مشروع قانون الإجراءات الجنائية، وذلك بعد أن أودعت لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية ومكتب لجنة حقوق الإنسان تقريرها عن مشروع قانون الإجراءات الجنائية بتاريخ 30 أكتوبر لسنة 2024، وقد أوضحت اللجنة في تقريرها المشترك، أنها قد اطلعت على المقترحات المقدمة من نقابة الصحفيين، والاقتراحات المقدمة من نقابة المحامين، وأنه قد كان هناك استجابة أثناء مناقشة ذلك المشروع لبعض تلك الاقتراحات.
ولكن بمطالعة هذا التقرير المشترك، لم يتبين أنه قد احتوى على تغييرات ذات علاقة جذرية، بما نادى به المتخصصون خلال الفترة الزمنية الماضية، أو ما تم عرضه خلال الحلقات النقاشية، أو ما صدر من أوراق بحثية ونقدية للمشروع، اللهم ما ورد بشأن المادة 267 من ذلك المشروع، حيث وافقت اللجنة المشتركة على حذفها، وهي المادة المتعلقة بنشر أخبار أو معلومات أو إدارة حوارات أو مناقشات عن وقائع الجلسات، أو ما دار بها على نحو غير أمين أو على نحو من شأنه التأثير على حسن سير العدالة. وحظر تناول أي بيانات أو معلومات، تتعلق بالقضاة أو أعضاء النيابة العامة أو الشهود أو المتهمين عند نظر المحكمة لأي من الجرائم المنصوص عليها في قانون مكافحة الإرهاب الصادر بالقانون رقم 94 لسنة 2015 .
وإذ أن العودة إلى مناقشة مشروع قانون الإجراءات الجنائية من جديد، من أن ذلك المشروع يسيء إلى سمعة مصر في المحافل القانونية، وأنه لا يتناسب بشكل أولي مع كم الخبرات القانونية والقامات العلمية التي تحتويها مصر في شتى أنواع القانون، بحسبه أحد أهم أدوات المعرفة الإنسانية، ذلك بخلاف القامات القضائية والفقهية التي تصدرها مصر إلى العالم، فهل سيتم تمرير مثل هذا التشريع المتخاذل على المجتمع المصري، فعلى الرغم من تعالي أصوات المعارضة ضد هذا المشروع بشكل أرى أنه لم يسبق له مثيل، من خلال نقابة الصحفيين أو المحامين أو نادي القضاة، بخلاف الأصوات المتناثرة على مواقع السوشيال ميديا، فيجب والحال كذلك، أن تحترم السلطات أصواتا من داخلها، وتعود بهذا المشروع إلى المربع صفر، وتبدأ من حيث يبدأ الخبراء في عرضه على المتخصصين، وأهل الخبرة وأصحاب الحق في مناقشتهم قبل عرضه على مجلس النواب بحسبه السلطة التشريعية.
وحتى يستقيم القول، فلا بد وأن نؤكد، على أن قانون الإجراءات الجنائية يمثل الظهير الحامي لحدود الشرعية، فيما تتخذه السلطات من إجراءات حال تنفيذها للقوانين العقابية، بداية من لحظة حدوث الجريمة، حيث لا يمكن في جميع الأحوال تصور الوصول إلى العدالة الناجزة في المواد الجنائية، والتي لا تقف إلا عند حد توقيع العقاب الملائم على المتهم؛ جزاءً بما اقترفت يداه، كذلك الأمر أو ربما أشد، فلا يمكن تصور تحقق تلك الغاية المتمثلة في معاقبة المجرمين، إلا من خلال إجراءات جنائية تصون حقوقهم، في كافة مراحل التقاضي، بداية من لحظة القبض عليهم، نهاية بتنفيذ العقوبة المقضي بها، أو القضاء بتبرئة من تم تقديمه للمحاكمة، وإذ أنه لما كان التشريع «القانون» هو السند الذي يتوقف عليه تنظيم ممارسة ورسم حدود الحقوق والحريات، فالتشريع على هذا النحو هو السند الذي يتوقف عليه تنظيم ممارسة ورسم حدود الحقوق والحريات، فإن ما تقره التشريعات من القواعد القانونية في شأن هذا الموضوع لا يجوز أن ينال من الحقوق التي كفل الدستور أصلها، سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها، ويتعين أن يكون منصفا ومبررا، وبالتالي فإنه لا يجوز للسلطة التقديرية للمشرع، أن تتجاوز أو تنحرف عن الأهداف الدستورية في طريقة وكيفية مباشرته لاختصاصه الفريد، وقد اشترط الدستور لتحديد قواعد الإجراءات الجنائية مستندا إلى مبدأ عام، وهو الثقة في القانون لتنظيم الحريات.
ولا بد وأن نعاود التأكيد، على أن تعديل قانون الإجراءات الجنائية بشكل عام من الأمور ذات الحساسية المفرطة لتعلقه بكيفية ضمان حقوق وحريات المواطنين، وبالتالي فيجب أن يتم ذلك الأمر على نحو من الدقة والمهنية، بما يضمن أن تكون القواعد الجديدة متماشية بصورة كبيرة مع التزامات مصر الدولية والحقوقية، التي ضمنتها الاتفاقيات والمواثيق التي وقعت عليها مصر، بخلاف ما حدده الدستور المصري من قواعد وجب الالتزام بها، وتحقيقها على أرض الواقع من خلال تضمينها للقواعد القانونية، وذلك ما لم نجد له صدى، في ما يتم الترويج له بمشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد، والذي ورد به العديد من النقاط السلبية التي تصادر حقوق الأفراد، وهو الأمر الذي يتعارض مع حقيقة شرعية ومشروعية الإجراءات الجنائية، وأن الهدف الرئيس من وجود مثل هذا التشريع على الرغم من سعيه للوصول إلى العدالة الجنائية فيما اقترف من جرم، إلا أن ذلك حده أن تراعى الحقوق الأساسية الإجرائية للمتهمين، بما يضمن تفعيل أصل البراءة كأصل عام شامل للمحاكمات الجنائية. والأصل العام أن يكون المشرع حريصاً على صون حقوق المواطنين وحرياتهم المقررة دستورياً، وألا ينال منها متخفياً وراء ستار من ولايته المنصوص عليها في الدستور، إذ لا يجوز أن تتخذ السلطة التشريعية من اختصاصها في تنظيم الحقوق ستاراً لإخفاء نواياها في الخروج بهذا التنظيم عن طبيعة الأغراض التي يجب أن يحرص عليها، حتى وإن حاجج البعض، بأن للمشرع السلطة التقديرية في المفاضلة بين البدائل المتعددة حين تنظيم الحقوق، إلا أن ذلك محدود باختياره أفضل تلك البدائل؛ لصون تلك الحقوق وحمايتها على أكمل وجه، دونما إثقال بالقيود، أو ما يجاوز حد التنظيم بشكل عام.
كما وأن إصدار هذا التشريع على الرغم مما أبدي بشأنه من ملاحظات متعلقة بالحقوق والحريات، لا يكاد يخلو من الاستهانة بالأصوات المعارضة والناقدة له، ولا يؤكد سوى على أن السلطة لا تستجيب، حتى ولو للأصوات الإصلاحية التي تسعى لاستصدار تشريع يتوافق مع التزامات مصر الدولية والحقوقية والدستورية، وهو ما يحمل في طياته ترسيخا لمبدأ السلطوية فقط.