مَن مِن الناس اليوم، يتحدث عن الحوار الوطني؟ المؤكد أن الزخم الشعبي الذي بدأ الحوار به، قد أفل تدريجيا، حتى أنه لم يعد محلا سوى لحديث المهتمين في الشأن العام. وحتى هذا الحديث لم يعد كله حديث إيجابي، بل أغلبه يحمل اليوم شجون وتذكير البعض للبعض الآخر منذ بدء الحوار، بعدم الإفراط في التوقعات.
واحد من الأسباب الرئيسة التي حالت دون بقاء هذا الزخم، هو أن الحوار لم يتلمس الناس نتائجه المتوقعة أو المرجوة منه على أرض الواقع. قديما قالوا ثورة التوقعات المتزايدة، تسفر عن ثورة إحباطات متزايدة. بعبارة أخرى، مع بداية الحوار رفعت الآمال والتوقعات إلى السقف، ولم يدرك من فعل ذلك للحظة واحدة، أننا لا زلنا نحبو في ركاب التطور، ولا زالت البيروقراطية والمركزية- الإدارية والأمنية- تحول دون الكثير من عوامل التقدم، ومن ثم، فإن النجاح سيكون متأخرا، أو بطئيا للغاية. كل ما سبق نتائجه الخطيرة، أن الناس قد فقدت الأمل في التغيير أو حتى الإصلاح، فلم يعد لهم اليوم سوى الاستكانة والخمول، وهو أمر مفضي عادة إلى فقد أهم عجلات دفع عملية التنمية.
عديد الأمور مسئولة عن هذا التأخر، وتلك الصورة السلبية التي اتخذها الكثيرون عن الحوار الوطني، رغم أن الحوار– من داخله- بالفعل لم يكن هو المسئول عن هذا التأخر. صحيح أن بعض الأمور والقضايا تردد الحوار وتعامل فيها بيد مرتعشة، إلا أن الأغلب الأعم، أن الطرف المخاطب هو من سعى إلى وضع مكابح التقدم.
حساسيات تعامل الحوار مع مؤسسات الدولة
من داخل الحوار، كان هناك قلق دائم من قبل البعض، من أن توصية ما أو مقترح ما سيغضب سلطة بعينها، وأن التعامل مع أمر معين بنوع من الخجل، ستكون نتيجته مؤثرة، وإلا ربما يغلق الحوار أبوابه. هذا الأمر على صحته عند بداية الحوار، إلا أن الأطراف المقابلة، أو المخاطبة بتنفيذ المخرجات، استمرأت ذلك، فعادت تعاند أو على الأقل تعمل، وكأن الحوار برمته لا يخصها. ما سبق من حديث، لا يخص رئيس الجمهورية، لأن الرئيس كان دائما الطرف الأسهل في المخاطبة، والأسرع في الاستجابة.
خذ على سبيل المثال حساسية الحوار المفرطة في التعامل مع النائب العام، وعدم مخاطبته منذ بدء الحوار بشأن المحبوسين احتياطيا، رغم كونه إنسانا، قبل أن يكون قاضيا. مؤخرا وبعد عدة أشهر أدراك الحوار، أنه لا سبيل من مقابلة ممثلين عن مجلس الأمناء له لمفاتحته في الأمر مباشرة، للنظر بعين الرأفة والشفقة للموقوفين، بعد أن بحت الأصوات؛ للنظر لهم بموجب حقوقهم الدستورية، وهو الأمر الذي انتهى برمته لعدم إتمام المقابلة.
خذ كذلك حساسية الحوار المفرطة في التعامل مع مجلس النواب، وكأن مجلس الأمناء قد خطف الحوار من يده؛ كي يختص به هو، رغم أن مجلس الأمناء مكلف من رئيس الجمهورية بأداء عمل سياسي معين. أعمال مجلس الأمناء ستصب ما يحتاج منها لتعديلات تشريعية في ماكينة مجلس النواب، ومجلس الأمناء لديه حساسية في التعامل مع أي قضية، قد يظهر أن هناك خلافا في الرأي بين المؤسستين. خذ هنا على سبيل المثال، نقد مجلس الأمناء منذ بضعة أشهر قانون سنه المجلس لتأجير المستشفيات، باعتباره عملا مخالفا لتوصيات الحوار الوطني السابقة بشأن دعم الخدمة الصحية الشعبية المجانية. ما كان محل بحث بالحوار الوطني، هو التوصية بألا يقوم الرئيس بالتصديق على القانون غير المتوافق مع التوصيات، ثم بدعوى من أحد الأعضاء ألغي المقترح، حتى لا يغضب البرلمان، وكأن غضب الناس أقل أهمية من غضب النواب!!!.
مؤسسات لا ترى مخرجات الحوار أصلا
مقابل ما تقدم، وأمام مخرجات الحوار التي قام رئيس الجمهورية بدفعها إلى الحكومة؛ كي تتعامل معها بجدية، باتخاذ قرارات بشأنها أو دفع تشريعات لمجلس النواب بخصوصها. كانت الحكومة تنظر إلى الحوار ومخرجاته بنوع من الخفة الشديدة. ففي اجتماعين لرئيس الوزراء مع أعضاء من مجلس الأمناء- وكان كاتب هذه السطور ضمن الحاضرين- في 25 فبراير و28 مارس 2024، وعد رئيس الوزراء بشأن الـ 135 توصية- التي دفعها رئيس الجمهورية إلى الحكومة- بتنفيذ 10 توصيات كل شهر. وإلى اليوم لم تفِ الحكومة بوعدها.
أما بشأن ذكر أمثلة محددة لإثبات كيفية تعامل الغير مع الحوار. يمكن التطرق إلى قانون الإجراءات الجنائية. هنا كان تعامل مجلس النواب مع توصيات الحوار الوطني، كأنه لم يرها أو يسمع عنها، حتى أن مشروع القانون الذي راجعته لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية انتقدته بشدة كل من نقابتي المحامين والصحفيين، ونادي القضاة، وردت اللجنة بتطاول سخيف جدا على نقابة الصحفيين. وكان نتيجة رد اللجنة– السباب واللعان- غير المعتاد، أن قام مجلس الأمناء بإعداد جدول مقارن بين مخرجاته بشأن الحبس الاحتياطي ومخرجات اللجنة البرلمانية، تبين منه أن اللجنة تتعمد إغفال المخرجات. خذ على سبيل المثال إهمال اللجنة لتوصية الأسورة الإلكترونية كبديل للحبس الاحتياطي، وكانت حجتها وجود مشكلات تقنية، مشكلات قالت عنها اللجنة: “نحن غير جاهزين للتعامل معها”، رغم أن الإدارة المصرية استطاعت، أن تتعامل مع عديد القضايا الرقمية والتكنولوجية المرتبطة بأمور تتعلق بالدعم والبنوك والنقل والانتخابات. خذ أيضا إهمال اللجنة لتحديد التعويضات للمتضررين من الحبس الاحتياطي، وإصرار اللجنة على وجود دور للنيابة في مسألة المنع من السفر، والحجز على أموال البنوك بعد الإفراج عن المحبوسين احتياطيا، وكذلك عدم التفاتها لطلب الحوار الوطني، بأن تلتزم النيابة بإعداد تقرير نصف سنوي لحالات الحبس الاحتياطي، لمنع نسيان الناس، كما هو قائم.
حالة ثانية، يتبين فيها تجاهل الحكومة والبرلمان للحوار الوطني، هي ما يتعلق بسن قانون خاص بمفوضية التعليم، وهذه المفوضية سبق أن قام رئيس الدولة إبان جلسات الحوار الوطني في صيف 2023، بتقديم مشروع قانون أمام الحوار الوطني لمناقشته. يومها ناقشت لجنة التعليم المشروع باستفاضة، وألغت ضمن ما ألغت المادة التي تتضمن أعضاء المفوضية، والتي كان المشروع يشير فيها إلى وجود أغلب وزراء الحكومة ضمن مجلس إدارة المفوضية. هنا أبدل الحوار الوطني هذا الأمر، بأن أوجب بأن يكون خبراء التعليم والتربويين، هم أغلبية أعضاء مجلس إدارة المفوضية. لكن عند مناقشة مشروع القانون في مجلس النواب في أكتوبر الماضي، تجاهل مجلس النواب الأمر برمته، وأقر المشروع كما هو بالأصل، بل أن أحد الوزراء الذي سبق له، أن صاغ توصيات الحوار الوطني في هذا المضمار، باعتباره أحد أمنائه، تحمس داخل البرلمان للصياغة التي أقرها مجلس النواب، في سابقة تدعو إلى الدهشة!
هكذا، كان تعامل الحكومة والبرلمان مع مخرجات الحوار الوطني، وعلى الأرجح سيكون ذلك هو نهج الطرفين في التعامل مع مخرجات الحوار الأخرى المتعلقة بالإدارة المحلية والأحزاب وقانون الانتخاب، ومفوضية منع التمييز وغيرها وغيرها من أمور سبق وأن قتلت بحثا، وقدمت خلالها توصيات. ولِما نبتعد، ولنا في الدعم أكبر مثال، إذ رغم أن الحكومة قدمت، وذكرت أكثر من مرة، أنها تنتظر توصيات الحوار الوطني بشأن الدعم، فهي تعلن يوميا، أنها اتخذت بالفعل قرارها بتحويل الدعم العيني إلى دعم نقدي، وكأن الحوار بالنسبة لها مضيعة وقت، فيما يخص قرار متخذ بالفعل. فالتحول للدعم النقدي، وباعتباره قرارا مرفوضا شعبيا، لا يعدو أن يكون من الناحية الإعلامية قرارا، اتخذه الحوار الوطني، لا علاقة للحكومة به!