في عام 472 قبل الميلاد، كانت مسارح أثينا تعرض على جمهورها المثقف “مسرحية الفرس” من تأليف أحد عباقرة التراجيديا الإغريقية، وهو أيسخولوس، كانت المسرحية على غير ما جرت عليه العادة في المسرح الإغريقي الذي يدور حول أساطير، لكن مسرحية الفرس كانت تدور حول حدث تاريخي واقعي حقيقي مستوحى من إحدى الحروب بين الفرس والإغريق، وهي حرب سلاميس عام 480 قبل الميلاد، أي قبل ثمانية سنوات فقط من عرض المسرحية. في هذه المسرحية وضع أيسخولوس (525 – 456 قبل الميلاد) أصول النظرة الأوروبية للفرس، ففي حرب سلاميس توحدت كافة الجيوش الإغريقية؛ لتصد الغزو الفارسي الذي يستهدف الاستيلاء على اليونان، انتهت الحرب بهزيمة الفرس، وانتصار اليونان، المسرحية- رغم ما فيها من تراجيديا باكية- جاءت حكيمة متوازنة، أرضت عواطف الشعوب اليونانية بالفخر بالنصر الذي أنجزوه، لكنها في الوقت ذاته لم تتطرف في تصوير الفرس المهزومين، حافظت على قدر من التوسط والاعتدال، بما يكفي لإبداء قدر كبير سواء من التعاطف أو الإعجاب بفضائل هذا العدو الفارسي المهزوم، افتخرت المسرحية بفضائل اليونان المنتصرين، وانطوت على إعجاب وتعاطف مع الفرس المنهزمين. وهذه النظرة اليونانية القديمة، لا تزال هي الروح التي تميز المزاج الأوروبي في النظر إلى الفرس وحضارتهم، فللفرس في المخيال الغربي مكانة مخصوصة، تفوق من سواهم من شعوب الشرق، هؤلاء الفرس الذين كانت لديهم العزيمة لغزو اليونان 492 قبل الميلاد، ثم غزو بيزنطة 627 ميلادية، وعندما لا يكون في مقدورهم الغزو، كان يلعبون دوراً كبيراً في الحروب الداخلية بين الدويلات اليونانية، وقد حصل ذلك في حرب البيلوبونيز التي دامت ثلاثة عقود 430 – 404 قبل الميلاد، وقد انقسمت فيها اليونان بين حلفين، حلف تقوده أثينا، وحلف تقوده إسبرطة، وكان دور الفرس هو تمويل جيوش إسبرطة ضد جيوش أثينا، حتى انتهت الحرب ليس فقط بهزيمة أثينا، لكن بانطفاء توهجها، ثم خمول عزيمتها، ثم أفول حضارتها. الفرس أو فارس أو إيران مكون مهم من مكونات العقل الغربي والذاكرة الغربية والمزاج الغربي من اليونان حتى الأمريكان، هي- بالمعنى التاريخي- جزء من أوروبا ذاتها، أسبق في ذلك من روسيا، كما أسبق من المسيحية، كما أسبق من العرب والإسلام. أوروبا القديمة تشكلت تحت وفي مواجهة فارس القديمة، تلك المواجهة التي خلقت ذاك الإعجاب الذي يحمله الغرب لفارس وحضارتها.

قريب من هذا المعنى، مثلث الحضارات القديمة: مصر وبلاد الرافدين أولاً، ثم بعدهما فارس، ثم اليونان ثانياً وثالثاً، ارتباط وجودي جرت فصوله عند المحطات التأسيسية في تاريخ البلدان، وما صنعته من حضارات، تدين فارس، كما تدين اليونان، لحضارة مصر، ولم تكتمل فارس، ولم تكتمل اليونان إلا بغزو الأولى، ثم الثانية لمصر، وحكمها عدة قرون. وكلتاهما دخلت التاريخ بعد مصر بثلاثة آلاف من السنين.

مصر وإيران في العصر الحديث، وأقصد به منذ مطلع القرن السادس عشر الميلادي، قصة تحتاج إلى تفكيك: إيران التي نراها الآن تمتاز بأنها: شيعية، إمامية اثني عشرية، ثورية، دينية أي تحكمها أيديولوجيا دينية، هي نظرية ولاية الفقيه، كما يحكمها الفقهاء من رجال الدين، ثم هي قوة إقليمية، تلعب أدواراً مسموعة ومرئية خارج حدودها، وفي أكثر من اتجاه، وتثير الكثير من القلق في الإقليم والعالم.

عندما كانت مصر تنزوي، ثم تنزل من فوق قمة التاريخ عند القرن السادس قبل الميلاد، كانت فارس تدخل التاريخ لأول مرة.

ثم عندما كانت مصر المملوكية ترتخي عضلاتها، وتخور قواها عند مطلع القرن السادس عشر الميلادي، كان الإقليم فيه قوتان إسلاميتان صاعدتان، تنتظر كل منهما الفرصة للانقضاض على الإمبراطورية المملوكية في مصر والشام والحجاز واليمن، الصفويون في فارس يريدون مصر والشام والحجاز واليمن والبحر الأحمر؛ لتكون لهم قيادة العالم الإسلامي ونشر التشيع ومذاهب الأئمة من آل البيت، وعلى الطرف الآخر يقف العثمانيون متحفزين في الاتجاهين: متحفزين لردع الصفويين، ثم متحفزين للقضاء على إمبراطورية المماليك. المماليك، باعتبارهم أسبق من الصفويين والعثمانيين في لعبة السياسة في الشرق، كان لديهم من البصيرة والغريزة لإدراك ضخامة القوتين وطموحاتهما وخطرهما، لم يكن آخر المماليك- قنصوه الغوري- يملك من القوة ما يكفي، كان يتربع على عرش قوة آفلة لا محالة، استخدم كل حنكته في التلاعب بالطرفين، مع هذا ضد ذاك في العلن، ثم يفعل العكس، ويكون ضد ذاك مع هذا في الخفاء، كان على يقين أن من مصلحته، أن يطول الصراع الدموي بين الشيعة الصفويين، والأحناف العثمانيين، وكان على يقين أن المنتصر منهما سوف يتفرغ لمواجهة المماليك، تلقى الغوري من الصفويين مراسلات صريحة، أنهم من آل بيت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم أولى الناس بحكم مكة والمدينة والحجاز ومصر والشام، كان هذا هو الطموح الحقيقي للصفويين، لكن في عام 1514 تحركت جيوش سليم الأول تجاه الصفويين، دخل العاصمة تبريز، انهزم الصفويون، هرب الشاه إسماعيل الصفوي، ولو كان سليم الأول في باله القضاء البات، والحاسم على الإمبراطورية الصفوية الناشئة، لكان في استطاعته ذلك، لكنه اكتفي، بما أنجز من نصر وعاد إلى بلاده. في هذه اللحظة بات مصير مصر والمماليك محسوماً، مسألة وقت لا أكثر، وهو ما قد حدث 1517، انتزع العثمانيون الشام ومصر والحجاز والبحر الأحمر واليمن. 

مصر الشيعية سابقاً، وإيران السنية سابقاً، ومعهما تركيا الحائرة بين الشرق والغرب، بينهم مشتركات ثقافية وحضارية أعمق بكثير، مما يبدو على السطح. مصر سبقت إيران في التشيع 996 – 1171 م، أي أكثر من قرنين من الزمان، هما تاريخ الحكم الفاطمي في مصر، وسيادة المذهب الشيعي الإمامي الإسماعيلي كمذهب رسمي للدولة المصرية على الأقل، وأقول كمذهب رسمي للدولة المصرية وبالذات في مجال القضاء والإدارة والسياسة، حتى نخرج من الجدل غير المحسوم بين مدرستين في التاريخ، إحداهما تقول إن المصريين في مجموعهم قد تشيعوا على مذهب الدولة، ومدرسة تقول إنه لم يتشيع من المصريين إلا أقلية، وأيا ما يكون نصيب هذا الرأي أو ذاك من الصواب، فمن اليقين الذي لا خلاف فيه ولا عليه، هو أن الدولة المصرية ذاتها- كدولة- قد تشيعت وبات التشيع هو مذهبها الرسمي لأكثر من قرنين من الزمن، ومن طبيعة الأشياء، أن يترك مذهب الدولة أثراً في الناس.. وهنا يلزم إدراك، أن الفاطميين في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي، لم ينشروا التشيع الإسماعيلي بالإكراه، كما فعل الصفويون في النصف الأول من القرن السادس عشر، عندما نشروا التشيع الاثني عشري بحد السيف قسراً وإكراهاً، بل استخدم الفاطميون أساليب الإغراء الوظيفي، إذ جعلوا وظائف الدولة لمن يتمذهبون بالتشيع، فلم يكن أمام الطامحين لتقلد المناصب وشغل الوظائف غير التشيع. 

ذهبت مصر للتشيع مع الفاطميين، ثم عادت لأهل السنة مع الأيوبيين، وما زالت على العهد بها واسعة الصدر هادئة الطبع سمحة الروح مرنة العقل يقظة الضمير، تأخذ من الدين جوهره، ولا تقف- بجدية- عند حدود المذاهب والتحيزات، تحب آل بيت النبي حباً قلبياً، دون حزازات السياسة، ودون مرارات التاريخ، فليس عند المصريين في عمومهم انشغال جاد بانقسام سنة وشيعة، مزاج المصريين لا يبلع هذا الفراغ وذاك الترف.

قد تبدو إيران- بالجغرافيا- بعيدة عن مصر، لكن إيران- بالتاريخ – قريبة من مصر، ثمة شراكة بين الحضارتين العظيمتين في التاريخ سواء الأبعد أو الأقرب.

على مدار القرن العشرين الطويل، تبادل المصريون مع الإيرانيين الإلهام والتأثير، حدث ذلك إبان الثورة الدستورية في إيران وثورة 1919 م في مصر، كما حدث إبان العلاقات الوثيقة بين البلدين بزعامة الدكتور مصدق في إيران، وحكومة النحاس باشا الأخيرة في مصر، كما حدث في إلهام مصر الناصرية في عقدي الخمسينيات والستينيات للتيارات الثورية في إيران، كما كانت الحالة الإسلامية المصرية في عقد السبعينيات من القرن العشرين مساحة؛ لتبادل الإلهام والتأثير بين الثورة الإسلامية في إيران، وما كان يُعرف بالصحوة الإسلامية في مصر.

………………………………………………………………

مصر- بتناقضاتها- من ليبرالية إلى يسارية، إلى إسلامية، تبادلت الإلهام والتأثير والتأثر مع إيران- بتناقضاتها- من ليبرالية إلى يسارية إلى إسلامية.

وهذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.