الغضب المكتوم في الصدور يوشك أن ينفجر.

هذه رسالة إلى المستقبل المنظور في ليلة أمستردام الدامية.

لم تكن الاشتباكات والصدامات، التي جرت جملة عابرة على هامش حرب الإبادة في غزة، ولا محض ردة فعل على استفزازات مشجعي فريق “مكابي تل أبيب” قبل وبعد لقاء كروي أوروبي مع فريق “اياكس” الهولندي.

إننا أمام موجة سياسية وإنسانية مرشحة للتكرار، كأنها انتقال لمركز التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية من جامعات النخبة في الغرب إلى استادات كرة القدم.

شارك الطلاب العرب بدور ملموس في إطلاق الحركات الطلابية الغاضبة، لكنهم لم يكونوا صلب الظاهرة.

هذه المرة فإن العرب، المغاربة بالذات، هم الطرف المباشر بفوائض الغضب المكتوم في الأحداث التي هزت العاصمة الهولندية.

في الليلة السابقة، باشر الإسرائيليون استفزاز الجالية العربية بأمستردام، التي تبلع (15%) من سكانها.

سبوا العرب، ونزعوا أعلاما فلسطينية من على شرفات البيوت، حطموا سيارات أجرة، يمتلكها مغاربة، واستخدموا أسلحة بيضاء لترويع المارة- حسب التقارير الأمنية الهولندية نفسها.

كان ذلك داعيا إلى ردات فعل عنيفة عقب المباراة الكروية، طوردوا في الشوارع، ضربوا وركلوا وقذف بعضهم في القنوات المائية المنتشرة، واضطر آخرون إلى الهتاف لفلسطين، حتى يمكنهم أن يفلتوا من القبضات الغاضبة.

استدعت المشاهد المصورة ردات فعل في اتجاهات متناقضة.

رد فعل شعبي عربي، أضفى على شبكات التواصل الاجتماعي طابع البطولة ومشاعر الفخر على الشقيق المغربي وتوظيف سياسي إسرائيلي، بالمقابل حاول أن يسبغ دور الضحية على نفسه باستدعاء تهمة “العداء للسامية”.

تبارى القادة الأوروبيون في إدانة الطرف العربي، دون فحص لمسئولية الجمهور الإسرائيلي في تتابع المشاهد الموثقة.

في تصريح لافت للمستشار الألماني “أولاف شولتز”: “من حق اليهود أن يعيشوا بأمان مثلنا في أوروبا”.

هذا حق، لا يصح مناقشته أو الخلاف حوله، إذا امتد المبدأ نفسه إلى البشر جميعا بغض النظر عن أديانهم وأعراقهم، لكنه يناقض نفسه بالانحياز شبه المطلق لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة.

لم يكن مستغربا، أن تمعن وزيرة خارجيته “آنا لينا بيربوك”، في إغفال مسئولية المشجعين الإسرائيليين عن حوادث أمستردام بالهتافات العنصرية، التي أطلقوها ضد الفلسطينيين والعرب، واستدعت الرد والمواجهة.

إنها نفس الوزيرة التي سوغت قصف البيوت على رؤوس أصحابها، وقتل وإصابة مئات آلاف المدنيين، وأغلبهم نساء وأطفال، بذريعة أنهم يستخدمون كدروع بشرية.

ولا كان مستجدا استدعاء تهمة “العداء للسامية”، رغم أنها فقدت أية مسحة أخلاقية بإمعان الإسرائيليين في جرائم إبادة وتطهير عرقي دون خشية عقاب.

انحازت الإدارة الأمريكية إلى المعسكر الذي تقف فيه وتقوده.

بوصف “جو بايدن”، فإن ما حدث “تصرف حقير”.

هكذا بالنص، دون أن ينظر في المرآة ليستبين من هو الحقير حقا؟!

يستلفت الانتباه، أن ردة الفعل الشعبية في العالم العربي مضت على النقيض تماما.

بثت فيديوهات، ما جرى في أمستردام على أوسع نطاق.

استعيدت فيديوهات أخرى لهتافات باستادات كرة القدم أخرى، ترفع أعلام فلسطين وتهتف لحريتها، كما حدث مثالا في القاهرة والدار البيضاء وإسطنبول وباريس.

نحن أمام رسائل عميقة في مغزاها وتداعياتها، وجدت فرصة التعبير عن حقائقها المكتومة بالعاصمة الهولندية.

“عارفين هولندا..

عارفينها”.

تردد ذلك المقطع الغنائي في الفيلم الكوميدي “همام في أمستردام” على نطاق واسع احتفاء برسالة ما حدث، أن العالم العربي لم يمت بعد، وأن طاقة الغضب المكتومة على وشك انفجار قريب.

استشعر الفلسطينيون الرسالة ومعناها أكثر من غيرهم، رفعوا أعلام المغرب وسط البيوت المهدمة بغزة.

بدا التناقض فادحا بين النظم والشعوب والرسائل واصلة، لمن يريد أن يقرأ ما وراء الحوادث.

هنا يطرح السؤال نفسه: ما معنى وجود فرق رياضية إسرائيلية في مسابقات أوروبية؟

بالموقع الجغرافي، فإنها لا تنتسب إلى القارة الأوروبية.

وبالإرث السياسي، لم يكن ممكنا أن تنتسب إلى آسيا.

لم يكن “جواهر لال نهرو”، رئيس وزراء الهند وبطل استقلالها وأهم شخصية سياسية في تاريخها الحديث، مقتنعا بمقاطعة إسرائيل وعزلها عن حركة العالم الثالث.

بمبادرة مفاجئة، أرسل دعوة لإسرائيل للمشاركة في مؤتمر “باندونج” عام (١٩٥٥).

بدا الأمر محرجا أمام اعتراض الزعيم الراحل “جمال عبد الناصر”.

تساءل: “أليست إسرائيل دولة آسيوية؟”.

بدا معتقدا، أن مصر باعتراضها تتمسك بشكليات، لا تقتضيها طبيعة الحقائق، ثم إنها تخلط بين مشكلة داخلية وبين قضية عالمية، يمثلها مؤتمر، يستهدف مواجهة الاستعمار والقضاء عليه، وفتح الطريق أمام حركة التحرر الوطني.

وفق رواية الأستاذ “محمد حسنين هيكل”، الذي حاوره في القضية الشائكة كصحفي مقرب من قائد “يوليو”: “لنقل إنها تحتل رقعة أرض في آسيا، لكنها ليست آسيوية بالقطع”.

“إسرائيل ليست غير رأس جسر للاستعمار على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض ومشاركتها ضد الطبيعة، طبيعة باندونج وطبيعة إسرائيل”.

أثناء المباحثات الرسمية بالقاهرة حسم “عبد الناصر” كل سجال- إما مصر والعالم العربي وإما إسرائيل.

سحب “نهرو” دعوته؛ خشية تفكك حركة عدم الانحياز، قبل أن تولد في “باندونج”.

بحكم السياسات العملية قبل الصداقات الشخصية، لم يكن ممكنا تجاهل الدور المحوري المصري في قيادة تلك الحركة ولا مغبة خروج العالم العربي منها.

هذا كلام في المتن لا على هامش الحوادث.

كلام في صلب الاستراتيجيات والانحيازات الكبرى.

وجود إسرائيل في مسابقة أوروبية مغالطة جغرافية، لكنها كاشفة استراتيجيا لطبيعة العلاقات والأدوار الوظيفية التي تلعبها في خدمة المصالح الغربية.

لم يرتكب العرب والمسلمون أية جرائم ضد اليهود، تستدعي اتهامهم بالعداء للسامية، لكنهم يدفعون وحدهم ثمن الجرائم، التي ارتكبها الأوروبيون.

مع ذلك، جرى استدعاء وقائع “ليلة البلور”، التي جرت في (9) و(10) نوفمبر عام (1938)، قبل ستة وثمانين سنة بالضبط، عندما طارد النازيون اليهود في شوارع برلين، كأنها واقعة واحدة.

في رحلة عودة المشجعين الإسرائيليين، هتفوا “لينتصر الجيش الإسرائيلي ويمحق العرب”.. “إلى الجحيم يا فلسطين”، ثم قالوا: “قتلونا ولم يساعدنا أحد، عندما كان اليهود في خطر، ساعدنا أنفسنا”.

الأدوار اختلفت الآن والأقنعة كلها سقطت، ويتبقى أن يرفع الشعب العربي رأسه، يدافع عن إنسانيته وحقه في الحياة بأمن وكرامة، كما حاول المغاربة في ليلة أمستردام الدامية.