لم تكن قصة الطبيبة التي طفحت بكلام فج وصادم على مواقع التواصل حول مرضاها هي الأولى، وبالقطع لن تكون الأخيرة في ظل السياق الحالي. فلا يمكن تصور أن تتحول أسرار المرضى وأخطائهم وخطاياهم إلى حديث المدينة وتنشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وتمارس طبيبة متواضعة الفكر وصاية على المجتمع وادعاء كاذب بالفضيلة والحجة البلهاء إنها لم تقل أسماء مرضاها وكأن “هذا الناقص”.
وإذا كان البعض تساءل هل قصة هذه الطبيبة اشتغالة جديدة، أم أنها قصة حقيقية؟ بصرف النظر عن كون ترويج قصتها على مواقع التواصل الاجتماعي، كان طبيعيا أم بفعل فاعل. الحقيقة أنها طفحت بهذا الكلام على مواقع التواصل الاجتماعي؛ بحثا عن “الترند” الذي بات في الواقع ظاهرة عالمية، ولكنها في البلاد المتقدمة أو الراغبة في التقدم، يكون الترند عادة حول قضايا حقيقية أو نتاج ظواهر حقيقية وغير مصنعة، أما في بلادنا فهو يظهر لمنع أو إخفاء قضايا النقاش الحقيقية، ويخلق نقاشا وهميا، لا يحمل أي مضمون، ويشغل الناس في قضايا هامشية وأحيان كثيرة تافهة.
الصادم في قصة الطبيبة، أنه يفترض، أنها حصلت على تعليم عال، ومع ذلك، فإن المفردات التي استخدمتها وطريقة كلامها، تدل على أنها “تفك الخط بالعافية”، وأن لديها ادعاء بالفضيلة والمعرفة صادم، وهي جزء من مشكلة “جهلاء” العصر الحالي، أن كثيرا منهم يتصورون، أنهم علماء وحكماء و”يفهموها وهي طائرة”، في حين أنهم في الحقيقة معدومو العلم والثقافة، وليس لديهم حتى فطرة إنسانية سوية، نجدها عند كثير من البسطاء في مصر.
مواجهة هذه النوعية من الناس، تكون مجتمعيا ومهنيا وليس أمنيا، فمطلوب أن يتعمق لدى الناس ثقافة المقاطعة لكل هذه الظواهر وعدم متابعتها، ولو كانت هذه الثقافة موجودة لقاطع الناس عيادة هذه الطبيبة وحولتها النقابة للتحقيق، دون اللجوء لأساليب المحاسبة الجنائية أو القبض عليها، إنما يجب أن تكون المحاسبة مجتمعية ومهنية فقط.
والحقيقة، أن مشكلة الطبيبة مثل آلاف غيرها، باتوا يبحثون عن الشهرة والمال، دون عمل حقيقي ولا جاد، وأن مهنة سامية مثل الطب لم تشبع رغبات الطبيبة في التحقق المهني والاجتماعي؛ فهرولت نحو الانتشار والثرثرة بكلام فارغ، بدلا من أن تتقن عملها وتخلص رسالة الماجستير، حتى يتاح لها إجراء عمليات بمفردها، وانشغلت بالشهرة التافهة والجري وراء “الترند”.
وإذا كان في بلد مثل مصر هناك قيود كثيرة على حرية الرأي والتعبير، ومفهوم أن يؤثر كثيرون السلامة، ويبتعدون عن مناقشة القضايا السياسة الكبرى ونظام الحكم وبناء دولة القانون والديمقراطية، وأن من المتوقع أن يكون بدلا من ذلك نقاش حول قضايا اجتماعية ومشكلة المحليات والأحياء ومشكلات المنظومة الصحية وأزمة التعليم، ولكننا فوجئنا بأن الجدل العام و”تقطيع الهدوم” انتقل إلى قضايا لا يمكن لبلد في الدنيا، أن تعتبرها قضايا الجدل العام التي تستحق النقاش الشعبي أو النخبوي. عرفت هذه الطبيبة “الفولة”، وتأكدت أن هذه القضايا “التافهة” والفضائحية هي التي تعمل “ترند”، وقررت نشر مشاكل مرضاها على الملأ.
لقد اعتدنا، أن نجد كلاما فارغا ومسيئا، كثيرا ما يقوله من يفترض، أنهم فنانون أو رجال دين أو نواب بحق المرأة أو بحق المسيحيين أو بحق مجتمعات أخرى، أو مخالفين لهم في الرأي أو حتى الذوق العام، وهي تصريحات ليست فقط خارج العقل، إنما كثير منها خارج الفطرة السليمة وهدفها، أن يصفق لها المهوسون ويهاجمها العقلاء، حتى تشتعل مدرجات مواقع التواصل الاجتماعي بالشتامين من كل اتجاه.
والحقيقة، أن السؤال الذي يطرح نفسه هل كل «الترندات» مصنعة أو سابقة التجهيز؟ أم أنها ظاهرة طبيعية، تعكس واقعا مأزوما وتربة مجتمعية، تجعل من الكلام الفارغ حديث المدينة؟
المؤكد، أن هناك جانبا مصنعا من هذه «الترندات». ولكن المؤكد أيضًا أن المجتمعات غير القادرة على مناقشة قضاياها الحقيقية، تضطر بحكم الغريزة والفطرة الإنسانية، أن تناقش ما هو مسموح أمامها، ولن تجد في كثير من الأحيان، إلا ما هو شكلي وهامشي؛ لكي يتحدث فيه الناس، على اعتبار أنه مجال آمن، وربما محبب ومطلوب، أن “يهبدوا” فيه.
مشكلة “الترند” المصنوع، إنه يختلق واقعا غير موجود أو يروج لواقعة حقيقية، كما حدث مع الطبيبة؛ لكي يجعلها على قمة النقاش العام بدلا من قضايا حقيقية أخرى أكثر أهمية. أما “الترند” الحقيقي فهو يوظف أو يستثمر في واقعة حقيقية لأغراض سياسية أو لتحيزات اجتماعية، وتبقى الأولى من سمات المجتمعات المأزومة، والثانية من سمات المجتمعات المتقدمة أو الراغبة في التقدم.
إن المجتمعات الصحية تعرف نقاشًا عامًا حول قضاياها الحقيقة، يكون فيها «الترند» تعبيرًا عن قضية مثارة فعلا في الواقع الاجتماعي، والسياسي سواء حول خلاف بين مشروعين سياسيين كبيرين: يسار أو يمين، أو حول سياسات مطبقة في الصحة والتعليم في مواجهة سياسات أخرى رافضة لها، أو قضية فساد صادمة وغير متوقعة، ولكنها حقيقية وغير مختلقة. كل ذلك يصنع ترندا حقيقيا وغير زائف.
نعم لقد شهدنا في مصر على مدار سنوات «ترندات» كثيرة، كان أبطالها خناقات الفنانين، والمطلقات، وقصص رئيس نادي الزمالك السابق، ومعارك الرياضة، والتحفيل المتبادل بين جماهير الأهلي والزمالك، وردح من يسمون بالفنانات، لكنها قد تكون هي المرة الأولى التي تصبح فيها بطلة “الترند” طبيبة، لا يجب أن تعالج الناس؛ لأنها تحتاج أولا إلى علاج.