بتاريخ التاسع من نوفمبر الحالي، أصدرت المحكمة الدستورية العليا، حكمها في القضية رقم 24 لسنة 20 قضائية دستورية، وذلك في الطعن المقدم بعدم دستورية المادتين رقمي 1 و5 من القانون رقم 136 لسنة 1981، في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر. وقد انتهت المحكمة في قضائها إلى الحكم بعدم دستورية الفقرة الأولى من كل من المادتين 1 و2 من القانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، فيما تضمنتاه من ثبات الأجرة السنوية للأماكن المرخص في إقامتها لأغراض السكنى، اعتبارا من تاريخ العمل بأحكام هذا القانون. وبتحديد اليوم التالي لانتهاء دور الانعقاد التشريعي العادي الحالي لمجلس النواب تاريخا لإعمال أثر هذا الحكم.
وقد ذكرت المحكمة الدستورية في حيثيات الحكم، أن امتداد العقد وتثبيت الأجرة “ليس عصيًا على التنظيم التشريعي”، فإذا كان الامتداد القانوني قد حدد نطاقًا بفئات المستفيدين من حكمه، دون سواهم، فإن تحديد الأجرة يتعين دومًا، أن يستند إلى ضوابط موضوعية، تتوخى تحقيق التوازن بين طرفي العلاقة الإيجارية. كما أكدت المحكمة في حكمها، إلى أنه لا يمكّن المؤجر من فرض قيمة إيجارية استغلالًا لحاجة المستأجر إلى مسكن يؤويه، ولا يهدر عائد استثمار الأموال- قيمة الأرض والمباني- بثبات أجرتها بخسًا لذلك العائد فيحيله عدمًا، وذلك لكون النصان المطعون عليهما قد حظرا زيادة الأجرة السنوية للأماكن المرخص في إقامتها لأغراض السكنى، اعتبارًا من تاريخ العمل بأحكام هذا القانون على 7٪ من قيمة الأرض عند الترخيص، والمباني طبقًا للتكلفة الفعلية وقت البناء، وذلك ما مؤداه، أن ثبات القيمة الإيجارية عند لحظة من الزمان ثباتًا لا يزايله مضى عقود على التاريخ الذي تحددت فيه، ولا تؤثر فيه زيادة معدلات التضخم وانخفاض القوة الشرائية لقيمة الأجرة السنوية، واضمحلال عائد استثمار الأعيان المؤجرة، بما يدنيه من العدم، وهو ما يشكل عدوانًا على قيمة العدل وإهدارًا لحق الملكية.
وإذ أن ملف إيجارات الأماكن السكنية من الملفات المجتمعية الشائكة، والتي لم تزل منذ سنوات محل خلاف وسجال مجتمعي بين طائفتي الملاك والمستأجرين، وأن لكل منهما حججه وأسبابه في بقاء الوضع كما هو عليه، أو تغييره، كما وأن أثر ذلك الحكم قد يحث حالة من اللغط المجتمعي، فإن المحكمة الدستورية قد حددت لنفاذ ذلك الحكم موعدا مستقبليا، محدداً بتاريخ انتهاء دور الانعقاد التشريعي الحالي لمجلس النواب، وهو الأمر الذي يحمل دعوة للمجلس التشريعي، أن يسعى وعلى محمل الجد للتدخل بحل مشكلات ملف إيجارات الأماكن السكنية، على نحو يحقق العدالة المجتمعية بين طرفي العلاقة (الملاك- المستأجرين)، وهو الأمر الذي أشارت إليه المحكمة الدستورية في حيثيات حكمها، حيث أكدت على أنه ولئن صح القول، بأن مواجهة أزمة الإسكان والحد من غلوائها اقتضى، أن تكون التشريعات الاستثنائية الصادرة دفعا لها مترامية في زمن تطبيقها ، فإنه يتعين النظر إليها دوما، بأنها تشريعات طابعها التأقيت، مهما استطال أمدها، وأنها لا تمثل حلا دائما ونهائيا للمشكلات المترتبة على هذه الأزمة، بل يتعين دوما مراجعتها من أجل تحقيق التكافؤ بين مصالح أطراف العلاقة الإيجارية، فلا يميل ميزانها في اتجاه مناقض لطبيعتها إلا بقدر الظروف التي أملت وجودها.
وإذ أن محصلة الحكم من الناحية الموضوعية تتلخص في منع ثبات القيمة الإيجارية، على نحو لا يتوافق مع تغير قيمة القوة الشرائية للنقود، أو ما تؤثر به معدلات التضخم، وهذا ما يؤكد على انخفاض القيمة الاستثمارية للعوائد المتحصلة من الأماكن المستأجرة، وهذا ما يشكل بنظرة واحدة الجانب، أن الحكم يميل إلى ناحية الملاك، ولا يهتم بالجانب الآخر من العلاقة، وهو طرف المستأجرين، والذين يمثلون الشريحة الأعلى من القوة السكنية.
لكن ذلك الحكم من الوجهة العادلة لا يقف عند حد عدم دستورية النصين المشار إليهما، ولكنه يمثل دعوة مستعجلة لمجلس النواب إلى معالجة هذا القانون من الزاوية الدستورية، وذلك لوجود حالة من الفراغ التشريعي بالقضاء بعدم دستورية هاتين الفقرتين، حتى على الرغم من المعالجة المؤقتة التي أعقبت حكم المحكمة الدستورية العليا في عام 2018 بعدم دستورية امتداد العلاقة الإيجارية للأشخاص الاعتبارية، منذ عام 2018، وذلك بأن أتى القانون رقم 10 لسنة 2022 ، والذي حدد لسريانه مدة خمس سنوات، يتم خلالها إخلاء الأماكن المؤجرة للأشخاص الاعتبارية، أو حدوث حالة من التراضي بين الأطراف.
وإذ أن ذلك التدخل التشريعي بالقانون رقم 10 لسنة 2022، لم يعالج المشكلة بشكل كلي، فإنه يجب على مجلس النواب بعد صدور الحكم رقم 24 لسنة 20 قضائية، والذي هدم الأساس القائم عليه حدود العلاقة الإيجارية، والمتمثل في القيمة الإيجارية، إذ لا يمكن تصور حدوث اتفاق مجتمعي بين الملاك والمستأجرين بعد صدور هذا الحكم، وذلك يعود لتناقض المصالح بين طرفي العلاقة الإيجارية، وهذا ما يؤكد على ضرورة التدخل التشريعي في إعادة هيكلة قانون إيجارات الأماكن السكنية، على نحو يحدد أطر العلاقة بين طرفيها، بشكل يعالج مثالب القانون المقضي بعدم دستوريته، وبطريقة لا تمثل عدواناً على الحق في الملكية الخاصة، وهو الحق الذي اعتنى به الدستور لمصري، بنصه على حماية الملكية الخاصة، ولكن لا بد وأن يكون ذلك التدخل التشريعي مراعياً للظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد، ويعاني منها قطاع عريض من المواطنين، وهذه الطائفة هي طائفة المستأجرين، الممثلة للطرف الثاني في العلاقة الإيجارية.
وذلك الأمر، إنما يعني أن يُؤسس القانون الجديد على حوار مجتمعي بين طرفي العلاقة أو ممثليهم، وكذلك الخبراء في الجانب القانوني والاجتماعي والاقتصادي، بما يضمن أن يصدر التشريع الجديد في صورة لا تميل إلى أي من طرفي العلاقة، وتحقق العدالة الاجتماعية المتمثلة في ضمان وجود أماكن سكنية للمستأجرين، وبما يحافظ على حقوق الملاك في استثمار أموالهم وعقاراتهم، ولا يخل بحقهم في الملكية الخاصة، ولا يجور بذلك على المستأجرين في تراكم الزيادات بما لا يتوافق مع معدلات الدخول المالية، وبما يضمن لهم العيش في حدود اقتصادية واجتماعية، تتوافق ولو بنسب ما مع تلك الظروف الاقتصادية، ومعدلات التضخم المالي، التي كما تؤثر على ملاك العقارات، فإنها كذلك تؤثر على مستوى معيشة المستأجرين، وحقهم في الحياة بمشتقات ذلك الحق المتعددة والمتداخلة، والتي لا تقف عند حد وجوده في وحدة سكنية.