في ذلك اليوم البعيد (19) نوفمبر (1977)، بدأ الدور المصري في الانحدار إلى التهميش وخسارة وزنه واعتباره في حسابات الإقليم المشتعل بالأزمات والحروب.
إنه الزلزال المؤسس لخروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، حتى وصلنا إلى أدوار الوساطة لوقف إطلاق النار في غزة بطلب أمريكي.
بقوة الحقائق، مصر طرف رئيسي ومباشر في الصراع على مستقبل القضية الفلسطينية، ومستقبل سيناء على محك مشروع التهجير القسري.
ما يحدث في غزة، يدخل في صلب الأمن القومي المصري.
أي كلام آخر محض ادعاء.
بالأمر الواقع، فإنها خارج حسابات القوة، تتهددها المخاطر الجسيمة المباشرة، دون مواجهة حقيقية، أو شبه حقيقية.
قصة تراجع الدور والمكانة لم تبدأ اليوم.
إذا لم تراجع مصر “قصة الأمس”، فسوف تظل تتجرع آثارها وتداعياتها، مرحلة بعد أخرى.
حان وقت الطلاق النهائي مع ما أسماه المفكر الفلسطيني الراحل الدكتور “إدوارد سعيد”: “سلام بلا أرض”، وأطلق عليه الأستاذ “محمد حسنين هيكل”: “سلام الأوهام”.
تحت الكاميرات، جرت وقائع زيارة “أنور السادات” للكنيست الإسرائيلي.
بعد عودته من جولة في بوخارست وطهران والرياض، دعا يوم (٥) نوفمبر (١٩٧٧) لاجتماع عاجل لمجلس الأمن القومي المصري.
في ذلك الاجتماع، قال بالنص: “أنا مستعد أن أذهب إلى القدس، وأن ألقي خطابا في الكنيست الإسرائيلي، إذا كان ذلك يمكن أن يحقن دم أولادي”.
كانت تلك المرة الأولى التي ترد على لسانه هذه العبارة الفارقة، قبل أن يرددها بحذافيرها بعد أربعة أيام في خطاب، ألقاه أمام مجلس الشعب.
ران على اجتماع مجلس الأمن القومي صمت كامل، ويبدو أن أحدا- كما تؤكد مذكرات وزير الخارجية “إسماعيل فهمي”- لم يأخذ هذا القول بشكل جدي، كما أن “السادات” لم يوضح تماما، ماذا يعنيه.
ربما، لأنه لم يكن قد اتخذ قرارا نهائيا في هذا الموضوع.
أو ربما، لأنه “لم ير أن يُعطينا فرصة التعليق على ما قاله، أو مناقشته”.
قرار انفرادي دون أدنى مناقشة في أعلى المستويات المعنية بالأمن القومي، ودون علم وزير خارجيته الذي كان برفقته في جولته الخارجية.
كل ما جرى في ذلك الاجتماع إشارات وتلميحات وإيحاءات غامضة، لما أسفرت عنه مباحثاته مع الرئيس الروماني “نيكولاي شاوشيسكو”، وإلى الإطار العام لاقتراح رئيس الوزراء الإسرائيلي “مناحم بيجين” حول الخطوط العامة للكيان الفلسطيني الجديد، الذي أصبح الآن بعد (47) عاما وأكثر من ثلاثة عقود على اتفاقية “أوسلو” ممنوعا من الصرف في القاموس السياسي الإسرائيلي.
إنه حصاد الهشيم الذي أفضى إلى أبشع حرب إبادة في التاريخ الإنساني الحديث.
من فرط المفاجأة حسب “إسماعيل فهمي”، فإن وزير الدفاع المشير “عبد الغني الجمسي” قطع الصمت الذي ران على الاجتماع.
صاح فجأة، وهو يلوح بذراعيه: “لا كنيست.. لا كنيست.. ليس هذا ضروريا”.
كان “الجمسي”- كما يصفه “إسماعيل فهمي”- “من الرجال الذين يلتزمون النظام بصورة تامة، فلم يكن يتدخل في الحديث، أو يُشعل حتى سيجارته، قبل الحصول على إذن، لكنه في هذه اللحظة، خشي أن يكون السادات، يعني ما يقول”.
لم ينبس أحد آخر بكلمة واحدة، ومضى “السادات” يتكلم في موضوعات أخرى، وكأنه لم يسمع ما قاله وزير الدفاع على الإطلاق.
عندما أعلن “السادات” ذات العبارة مرة أخرى من على منصة مجلس الشعب، تصادف أن “الجمسي” كان بجوار “إسماعيل فهمي” على مقاعد الوزراء، فمال عليه هامسا: “ها هو يقولها مرة أخرى!”.
وزير الخارجية- مع ذلك كله- لم يأخذ الأمر جادا.. وبعد أن انتهى “السادات” من إلقاء الخطاب توجه إلى البهو الملحق بالمجلس، وهناك قال صائحا أمام الجميع: “لقد كانت زلة لسان.. أرجوك يا إسماعيل، أن تحذف هذه الجملة من الخطاب”.
نفذ التعليمات فورا.. وطلب من رؤساء تحرير الصحف، أن يتجاهلوا هذه العبارة الخاصة بزيارة القدس والكنيست. غير أن “السادات” عاد بعد قليل، فور أن نشرت وكالات الأنباء والمحطات التلفزيونية العالمية الخبر، وطلب من نفس رؤساء التحرير، أن يتجاهلوا تعليمات وزير الخارجية!
بمثل هذه الطريقة، أديرت أخطر قرارات الصراع العربي- الإسرائيلي.
لم يكن يناسب شخصا محترفا في كفاءة “إسماعيل فهمي”، أن يتغاضى لا عن “الأسلوب” ولا عن “المنهج”.. ولا أن يغمض العين عن “النتائج الوخيمة” المتوقعة.. فاستقال.
اتهم أنصار الرئيس الراحل “إسماعيل فهمي”، بأنه لم يحتمل فكرة المبادرة.. لأنه ينتمي إلى مدرسة تقليدية وقديمة!
رغم أن الدكتور “بطرس غالي”، الذي صعد إلى قمة جهاز الخارجية المصرية في أعقاب استقالتي وزيرها “إسماعيل فهمي” ووزير الدولة للشؤون الخارجية “محمد رياض”، كان مقتنعا، بما أقدم عليه “السادات”، إلا أنه وجد نفسه عضوا، فيمن كان يسميهم بـ “عصابة الخارجية”، أو “الميكانيكية”- نسبة إلى التعبير الإنجليزي الشهير “الميكانيزم” أو “الآلية”، الذي كان يستخدم وقتها على نطاق واسع في أوساط المثقفين والدبلوماسيين!
لم يكن بوسع الدكتور “غالي” بخلفيته الأكاديمية أن يغض الطرف، كما جاء في مذكراته، عن الأداء الهابط لكثير من مشاهد المفاوضات.
بتعبير “الجمسي” عن مفاوضات الكيلو (١٠١)، التي استبقت زيارة الكنيست بفترة طويلة نسبيا: “كنت أتفاوض مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر.. بينما النتيجة معدة سلفا بينه وبين الرئيس السادات”.
أكد “كيسنجر” في مذكراته، ما قاله “الجمسي”: “لم أعد وسيطا بين مصر وإسرائيل.. بل بين السادات وإسرائيل من جهة والوفد المصري من جهة أخرى”.
أهدرت النتائج العسكرية لحرب أكتوبر بمقولتي: “٧٠٪ من الصراع مع إسرائيل نفسي”.. و”٩٩٪ من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة”.
كانت النتائج وخيمة على الدور الإقليمي المصري بالانخراط في الصلح المنفرد مع إسرائيل والخروج من الصراع العربي- الإسرائيلي.
“شاهدت زيارة السادات للكنيست بالكويت.. بعد دقائق اختفت النساء. كن يبكين بالحمامات وغرف النوم”.
تلخص تلك العبارة للأستاذ “أحمد بهاء الدين” شيئا من الجو العام في العالم العربي لحظة زيارة القدس.
عالم بأكمله انهار تحت ومضات الكاميرات ومرحلة كاملة من التاريخ، أغلقت بالدموع، قبل أن يبدأ الانكسار الكبير لكل ما له قيمة في تاريخ الدولة العربية الأكبر والأهم.