تقدمت مفاوضات وقف إطلاق النار في لبنان، وأعلن المبعوث الأمريكي، أنه أنجز نحو 80% من بنود الاتفاق، وجاري سد الثغرات الباقية، وصار من الوارد أن نشهد في القريب العاجل وقفا لإطلاق نار، يوقف نزيف الدم في هذا البلد العربي، ولكنه سيضعه أمام معادلات جديدة، مخاطرها أنها قد تنتقل المواجهة التي خاضها حزب الله مع إسرائيل إلى مواجهة من نوع مختلف في الداخل اللبناني.

والحقيقة، أن صعوبة المعادلة اللبنانية ترجع إلى بعدين: الأول، إنه من الصعب التبسيط وإعلان رفض حرب حزب الله مع إسرائيل، دون الأخذ بعين الاعتبار المطامع الإسرائيلية في لبنان وجرائمها في غزة وعجز الضغوط السلمية العربية واللبنانية عن وقف الحرب، وصار من الصعب تجاهل أن الورقة الأساسية التي يمتلكها لبنان حاليا في وجه إسرائيل، هي صمود حزب الله وسلاح المقاومة، والذي كان محل رفض من غالبية اللبنانيين.

والحقيقة، أنه منذ أن فتح حزب الله ما سماه جبهة إسناد للمقاومة في قطاع غزة، وتراجع عن شعار سابق له عرف باسم وحدة الساحات، والذي انطلق من فكرة عقائدية، تتصور أن خيارات أحزاب المقاومة في أي مكان وفي أي سياق واحدة، وثبت في الواقع العملي أن الرابطة العقائدية لا تكفي بمفردها؛ لكي يقرر الجميع في نفس التوقيت محاربة إسرائيل.

إن شعار وحدة ساحات المقاومة ينطلق من فكرة عقائدية، تتصور أن خيارات أحزاب المقاومة في أي مكان وفي أي سياق وفي أي توقيت واحدة؛ نظرا لوجود الرابط الأيديولوجي الواحد الذي يجمعها، وهو مقاومة إسرائيل، وثبت في الواقع العملي، أن الرابطة العقائدية لا تكفي بمفردها لكي يقرر الجميع في نفس التوقيت محاربة إسرائيل، إنما هناك حسابات داخلية وإقليمية، تجعل هذا الخيار، ليس واحدا، وهو ما نشاهده حاليا بالفصل العملي بين وقف إطلاق النار في لبنان عن وقف إطلاق النار في غزة على عكس، ما طالب به حزب الله في بداية الحرب حين اشترط لوقفه في لبنان توقفه في غزة.   

والحقيقة، إنه لا يمكن فصل تنامي دور حزب الله وحركة حماس وباقي الفاعلين من خارج الدولة عن فشل المسار السلمي، أو قرارات الشرعية الدولية في وقف العدوان الإسرائيلي في أي مكان بالعالم العربي، وهل نجحت محاولات النخب اللبنانية السلمية من كل الطوائف، أن توقف آلة الحرب الإسرائيلية وتدفعها للتوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار، لولا صمود المقاومة، ومعرفة إسرائيل أن تكلفة احتلالها لجنوب لبنان ستكون باهظة حتى بعد إضعاف حزب الله؟ وهل نجحت جهود جنوب إفريقيا المدنية والقانونية، في أن تجعل قرار محكمة العدل الدولية بضرورة أن تتخذ إسرائيل قرارات عملية لحماية المدنيين يُنفذ؟ وهل القرار اليتيم الذي أصدره مجلس الأمن بهدنة إنسانية في غزة نفذته دولة الاحتلال؟

ساحة لبنان، تقول إنه لا توجد في الوقت الحالي على الأقل ورقة ردع في وجه إسرائيل، إلا سلاح حزب الله، وأنه رغم أخطاء كثيرة وقع فيها الحزب، إلا أن قوته العسكرية وقدرته على الرد والردع هي التي تجعل إسرائيل، تفكر أكثر من مرة، قبل أن توسع دائرة الاشتباك، وتدخل في حرب واسعة مع لبنان.

أما البعد الثاني من صعوبة المعادلة اللبنانية، فيكمن في مستقبل حزب الله، أو بمعنى آخر، أين تذهب طاقة الحزب العقائدية، إذا طُبق عليه القرار 1701، وانسحب إلى شمال نهر الليطاني، وتوقف تهريب السلاح له؟

المؤكد، أن حزب الله سيبقى كحزب عقائدي لديه حاضنة شعبية كبيرة، وخاصة بين الشيعة، كما من الصعب الوصول لصيغة تؤدي إلى نزع كامل لسلاحه، وأن القيود التي ستفرض عليه، ستجعله غير قادر على مواجهة إسرائيل، إنما على توريطه في الدخول كطرف، يعمق الاحتقان الأهلي مع باقي مكونات الساحة اللبنانية السياسية والدينية والمذهبية.

تعامل حزب الله في اليوم التالي للحرب، على أن المقاومة انتصرت وعدم الاعتراف بأن صموده لا يعني انتصارا، ولا يعني هزيمة، إنما يعني، أن هناك قرى لبنانية مُحيت من على الخريطة، ومدن كبرى دُمرت أجزاء كبيرة منها، وبيروت انتُهكت ضاحيتها الجنوبية، كما سقط ما يقرب من 4 آلاف شهيد، وقضت إسرائيل على معظم قادة الصف الأول من حزب الله، وبالتالي لا يجب الاحتفاء بالصمود ولا القبول بخطاب الهزيمة، إنما يجب التعامل مع الواقع الجديد بمراجعة نقدية حقيقية لما جرى.

معادلة لبنان بعد توقف الحرب، ستحمل مخاطر جديدة، قد تهدد السلم الأهلي في البلاد، لأن التعامل مع الحرب اختلف من مكون لبناني إلى آخر، فهناك من يحتفل بانتصار المقاومة، ويقول في الإعلام والمؤتمرات، إنها انتصرت على إسرائيل، وأجبرتها على وقف إطلاق النار، وهناك من يعتبر أن هذه الحرب ورطت لبنان، وأرجعته عشرات السنين إلى الخلف، ويعتبر أنها لم تفد فلسطين، وأضرت ضررا جسيما بلبنان، وبالتالي هو معبأ ضد حزب الله، بعد أن شاهد مآسي الضحايا ودمار البيوت.

خطاب الانتصار التي اعتادت التنظيمات العقائدية، أن تروج له من أجل ضمان ولاء الحاضنة الشعبية وتحميل الأطراف الأخرى مسئولية أي فشل أو تعثر؛ لتبقى صورة الحزب نقية أمام أنصاره وقادرة على جذب عناصر جديدة، يجب التوقف عنه وبالذات في هذا الوقت.

مخاطر المعادلة اللبنانية بعد الحرب ستكون بالأساس داخلية، ويجب أن تخرج بعد هذه المأساة نخب عاقلة من كل الأحزاب والطوائف، يتم فيها تضميد جراح أنصار حزب الله في الضاحية والجنوب اللبناني، دون صخب أو ضجيج وألا يروج حزب الله لخطاب نصر و”فتح مبين” في غير محله، في نفس الوقت يقر الجميع، بأن الحزب قدم شهداء، وصمد وقاوم واحدة من أبشع آلات الحرب في تاريخ العالم المعاصر، وأكثرها قسوة وإجراما.