هل تعود جماعة “الإخوان المسلمين” إلى المشهد السياسي المصري لاعبا رئيسيا فيه مرة أخرى؟!
السؤال طرح نفسه بإلحاح إثر إسقاط تهمة الانتماء إلى الكيانات الإرهابية عن (716) مواطنا، ينتسبون إليها.
قيل إن القرار قضائي يخضع لاعتبارات القانون، ولا ينطوي على أية رسائل سياسية تتعداها، غير أن التصريحات الرسمية التي صاحبت صدوره أضفت عليه معاني لا يمكن إنكارها، أو تجاهلها.
بدا الكلام كله مرتبكا ومربكا، دون مقدمات تمهد وحيثيات تشرح.. كيف؟.. ولماذا الآن؟
ثم ما دواعي الإقدام على أية عودة مفترضة للجماعة في ظل نظام، تأسست شرعيته على “التصدي للعنف والإرهاب المحتمل” إثر إطاحة الجماعة من السلطة في (30) يونيو (2013).
إذا ما قرر النظام الحالي بضغط أو آخر فتح صفحة جديدة معها، فلا بد من التساؤل عن أسبابه، وما تصوره للخطوات التالية في الملف الملغم؟
بقوة الحقائق، فإن مخزون شرعيته يكاد أن يكون قد استنزف بأثر الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وانسداد المجال السياسي إلى ما يقارب اليأس من أية إصلاحات، تعطي أملا في المستقبل.
التساؤلات وهواجسها، طرحت نفسها على الرأي العام دون إجابة واحدة متماسكة.
قيل إنها صفحة جديدة، دون أن يكون واضحا معالمها وحدودها.
أسند التطور اللافت إلى “توجيه الرئيس عبد الفتاح السيسي بمراجعة المواقف القانونية للمتهمين سواء المحبوسين، أو المدرجين على قوائم الإرهاب وسرعة التصرف بشأنهم تجاوبا مع الاستراتيجية القومية لحقوق الإنسان وتحقيقا للعدالة الناجزة وإعلاء لدولة القانون”.
هذا كلام يعني كل شيء ولا شيء في نفس الوقت.
في الأسابيع الأخيرة، رفعت صحف عديدة سقف انتقاداتها للجماعة بمقالات رأي، قبل أن يفاجئها القرار الأخير؛ فأخذت تسبح في الاتجاه المضاد.
الانتقادات المتواترة انطوت على خشية غير معلنة من تمدد دورها في الحياة السياسية الداخلية بأثر التعاطف الشعبي الكاسح مع المقاومة الفلسطينية، التي تتصدرها حركة “حماس” بخلفيتها الأيديولوجية المعروفة.
الخشية نفسها، شملت دولا أخرى في الخليج.
كان ذلك من تبعات الخلط المعيب بين المقاومة والجماعة.
الأولى، فعل تحرري ينبغي إسناده دون تردد انتصارا للقضية الفلسطينية، التي توصف عن حق بقضية العرب المركزية.
والثانية، كيان سياسي عليه تحفظات جوهرية، لا يمكن تخطيها بقفزة في الهواء من نظام أو آخر.
يستلفت النظر هنا، أن الجماعة لا تقدر الدور المحوري، الذي يلعبه التيار العروبي في إسناد “حماس”، باعتبارها حركة مقاومة، ولا تتوقف عن الهجوم المتواصل على “جمال عبد الناصر” رمزه الأكبر بمناسبة وبغير مناسبة.
إنها معضلة أخرى لها أثمانها السياسية الآن وفي المستقبل.
بالوقت نفسه تمانع الكتلة الأكبر من القوى السياسية المدنية، التي تعارض النظام الحالي، في أية عودة لـ”الإخوان” دون مراجعات عند الجذور، وقواعد تمنع تكرار خطايا الماضي.
تعطيل المسار السياسي تتحمله الجماعة قبل غيرها.
هذه حقيقة لا يصح إنكارها.
ارتكبت كل الأخطاء الممكنة لاستنفار طاقة إطاحتها من الحكم، استهانت بالقوى السياسية المدنية، وجماعات الشباب، وعملت على “أخونة الشرطة”، وتحرشت بالجيش، واستعدت قطاعات واسعة من الرأي العام بعضلات القوة دون كفاءة السياسة.
تصورت أن بوسعها التكويش على السلطة والإمساك بمفاصلها ومصادرة فكرة الثورة في التحول إلى دولة مدنية ديموقراطية حديثة بأشباح الدولة الدينية.
كانت آخر من دخل ميدان التحرير وأول من خرج منه.
في ذروة الثورة، حاولت عقد صفقة ما مع نائب الرئيس اللواء “عمر سليمان”.
الصفقات من طبيعة تاريخ الجماعة، وقد وصلت ذروتها في سنوات ما قبل “يناير”.
أبرمت عام (2005) صفقة انتخابية مع نظام الرئيس الأسبق “حسني مبارك”، حصدت بمقتضاها (88) مقعدا في المجلس النيابي.
كانت تلك فضيحة متكاملة الأركان وتواطؤ مشترك على أية تطلعات ديموقراطية.
ضم فريق التفاوض عن جماعة “الإخوان” ثلاثة من أكبر قياداتهم، النائب الأول للمرشد “محمد حبيب”، والنائب الثاني “خيرت الشاطر”، وعضو مكتب الإرشاد الدكتور “محمد مرسي”، الذي تولى رئاسة الجمهورية لعام واحد فيما بعد.
السؤال الذي غابت إجابته في جميع الشهادات والاعترافات: ما الثمن الذي تقاضاه نظام “مبارك” مقابل النسبة العالية من المقاعد التي حازها “الإخوان” في انتخابات (2005)؟!
كان النظام قلقا من فكرة بناء جبهة ديمقراطية واسعة تشمل الأحزاب الرئيسية والحركات الاحتجاجية والجماعة لخوض الانتخابات التشريعية الوشيكة.
حاول بكل الطرق إجهاض هذه الفكرة، ضغط على مفاصل رئيسية، وتركز الضغط على الجماعة، فهي الأكثر تنظيما وحجما وتهيؤا لخوض الانتخابات، والأكثر في نفس الوقت استعدادا للمقايضة والمساومة على حساب الحلفاء المدنيين المفترضين.
لم يكن لدي النظام مانع في صفقة ما مع الجماعة مقابل خروجها من مشاورات الجبهة، التي احتضنها رئيس حزب الوفد في ذلك الوقت الدكتور “نعمان جمعة”، وترأس اجتماعاتها الدكتور “عزيز صدقي” رئيس وزراء مصر الأسبق.
كانت تلك ضربة موجعة لمشروع التغيير السلمي الديموقراطي وخيانة حقيقية لفكرة الجبهة الوطنية الواسعة.
في عام (2010) تردد داخل أروقة الجماعة، أنها ربما تكون على وشك الانهيار النهائي.
لم يكن الحجم، الذي أخذته الجماعة بعد “يناير”، تعبيرا عن قوتها بقدر، ما كان انعكاسا لضعف الآخرين.
استثمرت تفريغ الحياة السياسية، الذي أمعن فيه نظام “مبارك”، للتمدد والانتشار والتمكين.
نفس التفريغ السياسي يحدث الآن على نحو أخطر وأفدح.
بعقلية الصفقة، وجدت فرصة جديدة أمامها للاقتراب من اللاعب الأمريكي إثر احتلال العراق عام (2003).
في ذلك الوقت، بدأ الأمريكيون يفكرون في مقاربات جديدة، يتخلون بمقتضاها عن النظم المستهلكة في الشرق الأوسط، وكان الرهان على ما يسمى بـ”الإسلام الوسطي” حاضرا بقوة.
فيما صرح به المرشد العام الراحل “مهدي عاكف”، أنه تلقى اتصالا من أحد قيادات “الإخوان” بالخارج، لم يفصح عن اسمه، يدعوه إلى حوار في القاهرة بين “الإخوان” وبعض القيادات الأمريكية في حضور السفير الأمريكي “ديفيد وولش”، المكلف وقتها بملف الشرق الأوسط.
لم يكن السفراء والدبلوماسيون الغربيون بالقاهرة مرتاحين لإشارات، تصدر من واشنطن وبروكسل عن حوارات جرت، أو قد تجرى بين الإدارة الأمريكية، أو الاتحاد الأوروبي، مع جماعات إسلامية، خاصة “الإخوان”.
كان تقدير الدكتور “هيو روبرتس” مدير مشروع شمال إفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية ICG عند منتصف العقد الأول من القرن الجديد، أن موقف الدبلوماسيين الغربيين بالقاهرة مفهوم وطبيعي؛ نظرا لما هو مطلوب منهم من أدوار في تحسين العلاقات بين الدول والحفاظ عليها، دون توترات قد تضر بمصالح استراتيجية.
سألت- وقتها- “هيو روبرتس” وموقعه في أحد المراكز البحثية الدولية المرموقة يمكنه من أن يقترب من دوائر صنع القرار: هل هناك الآن قنوات حوار غير معلنة بين الإخوان المسلمين في مصر والإدارة الأمريكية؟
كانت إجابته: “ليس لديه ما يؤكد أن هذا الحوار قد بدأ فعلا بأفقه الجديد، الذي دعت إليه كونداليزا رايس وقيادات في الاتحاد الأوروبي.. لكن ما أستطيع أن أؤكده، أن هناك طريقتين في التفكير داخل دوائر صنع القرار، بل وداخل مؤسسات التفكير والأبحاث الأمريكية والغربية”.
الأولى، تحاول أن تبحث في الدستور عن مساحة لوجهة نظر إسلامية، تدمج التيار الإسلامي في بنية المجتمع المدني والسياسي.
والثانية، تنظر للمشكلة من زاوية الجغرافيا السياسية، أو من وجهة نظر غربية محضة.
كان اعتقاد الدكتور “روبرتس” أن الحوار المطلوب من “كونداليزا رايس” ليس استكشاف التيار الإسلامي، وإنما العمل على ضمه إلى صفوف السياسة الأمريكية، لا تقبله كما هو، بل تطويعه، لما تريد الولايات المتحدة.
بتصريح واضح، لا لبس في حروفه ورسائله ومراميه صرح عضو مكتب الإرشاد الدكتور “عصام العريان” لصحيفة “الحياة” اللندنية، أن جماعة الإخوان المسلمين مستعدة للاعتراف بـ”إسرائيل” واحترام المعاهدات الموقعة معها فور وصولها إلى الحكم.
كانت تلك إشارة لافتة على سطح الحوادث لعمق تفاهمات، تجري في الكواليس استعدادا للحظة، ما قد تصعد عندها الجماعة إلى السلطة بدعم أمريكي وأوروبي ورضا إسرائيلي.
يناقض ذلك التوجه، ما تبنته “حماس” في عملية السابع من أكتوبر (2023)، حيث وفرت الولايات المتحدة الغطاء الاستراتيجي والسياسي الكامل لأبشع حرب إبادة في التاريخ الإنساني الحديث.
لم يكن ممكنا، أن تصل الجماعة إلى السلطة العليا في مصر، دون دعم وضغط أمريكيين على مركز صنع القرار في ذلك الوقت.
هذه حقيقة ثابتة بصورة لا تسمح بأي تشكيك فيها.
في تجربة السلطة، التي استغرقت عاما واحدا، اتسع نهج التنكر للوعود حتى وصل إلى محاولة فرض الدستور بلا أدنى توافق مع القوى المدنية، أو الشركاء في الوطن.
كان ذلك داعيا إلى اتساع نطاق الاحتجاجات، ونشأة “جبهة الإنقاذ الوطني” كإطار سياسي جامع لموجات الغضب.
أفضى التلويح بالعنف واستخدامه على نطاق واسع ضد معارضيها المدنيين والاستهتار بأية قواعد دستورية، أو قانونية إلى شيوع أجواء الكراهية في البلد كله.
هكذا انفسح المجال واسعا لصدام محتم.
إذا لم تكن هناك مراجعة حقيقية للأخطاء والخطايا التي ارتكبتها الجماعة، فلن تكون هناك عودة طبيعية إلى الحياة السياسية، أو أي تقبل من القوى المدنية.
المعضلة الأفدح أنه لا توجد الآن جماعة واحدة، ولا ممثل معتمد للحديث باسمها.
لا تتوفر بنية تنظيمية موحدة، تسمح بعقد صفقات.
إذا كان هناك من يفكر في عقد صفقة ما توفر سندا للنظام، فهو لا يقرأ التاريخ.
حديث الصفقات شيء ورفع المظالم شيء آخر تماما.