كثيرة هي الانتكاسات التي تقوم بها الكيانات المجتمعية سواء أفرادا أو أحزابا أو مؤسسات مجتمع المدني لخرق دساتير البلاد، الدول المتمدينة والتي تقل فيها تلك الانتكاسات، تسعى دوما إلى مواجهة ذلك من خلال أدوات الرقابة السياسية والإدارية التي يتخم بها النظام السياسي الديموقراطي.

في بلادنا، يبدو أن الدولة ومؤسساتها هي من يقود خرق الدستور، فرغم كون هذا القانون الأساسي هو من قام النظام السياسي بوضعه وفق أطر، توافق الجميع عليها، إلا أنه سرعان ما وجدنا بعد بضعة أشهر من وضع هذا الكيان القانوني الكبير، أن الخرق جاء من واضعه أو ممن أصدره، وهو ذاته من يشنف الآذان يوما بعد يوم، بأنه يحافظ عليه ويمسك بتلابيبه.

عديد مواد الدستور تخرقها الدولة جهارا نهارا، دون أن تجد رقيبا معتبرا يحاسبها على هذا الخرق. غياب مؤسسات الرقابة، أو العمل على طمسها، وكذلك تأميمها في كل يوم تفتكس فيه الأذهان؛ لتأميم ما يجعل الخرق يتم دون رقيب أو حسيب. نظام تعيين نواب البرلمان عبر الأغلبية المطلقة، وتأميم الإعلام بالشركة متحدة، ومشاركة السلطة التنفيذية بلعب دور في تعيين كبار القضاة، وجعل الأحزاب السياسية جميعها تقريبا ضمن أحزاب الموالاة بعد إخراج المعارضة من ساحة العمل، وضرب المجتمع المدني بقانون به تحفظات كثيرة، ووضع عديد القيود على حق التظاهر السلمي… إلخ، كل ما سبق وغيره، هو ما أسفر ويسفر عن خرق الدولة للدستور دون رقيب أو حسيب.

واحد من أكثر الأمور التي بدأت هذا الأسبوع في التداول العام، دون أن تخرج علينا أي من مؤسسات الدولة لتنفيها، أو أن تؤكد عدم النية في تنفيذ ما جاءت به، هو ذلك المنشور على مواقع التواصل الاجتماعي من وجود تحرك برلماني، يطالب باعتماد الجامعات الحكومية على تمويل ميزانيتها من مواردها الذاتية.

الكلام بحد ذاته هو دليل، على أن الجامعات لها موارد خاصة تنفق منها، وهو ما يجب على المرء، أن يدقق فيه؛ لمعرفة أحد أمرين: –

الأمر الأول: هل تلك الموارد الخاصة ناتجة عن نشاط الجامعة في علاقاتها بالمجتمع المحيط؟ هذا الأمر يرتبط بأحد مكونين أو كلاهما. المكون الأول: بيع المنتج الجامعي للقطاع الخاص، وبالطبع هذا الموضوع لا غضاضة فيه، لأن المطلوب من تلك المؤسسات رغم كونها غير هادفة للربح، أن تعمل على تنمية المجتمع، وتحارب الفقر والغلاء فيه، ببيع منتجاتها بأسعار تقترب أو تتماشى مع التكلفة. هنا نجد مثلا، أن كليات الزراعة في الجامعات المختلفة تعمل على بيع شتلات، أو تسويق إنتاج المزارع الداجنة، أو بيع إنتاج المناحل، أو بيع منتجات الحقول أو غيرها من الأمور التي ترتبط بمشروعات الطلبة البحثية والمعملية والمنفذة من المواد الخام التي يجب أن توفرها الجامعة. المكون الثاني: تلقي التبرعات من الخارج، وهو أمر لا غضاضة فيه أيضا، طالما كان التبرع غير مشروط، ولا يتعلق بأي نوع من أنواع تضارب المصالح، ومن ذلك تبرع رجال الأعمال المصريين والعرب لبعض الكليات؛ لتحسين أوضاع المعامل أو المكتبات أو القاعات الدراسية أو البرامج الدراسية (تبرع رجل الأعمال ممدوح عباس، ورجل الأعمال هاني توفيق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية منذ عدة سنوات على سبيل المثال”.

الأمر الثاني: هل الجامعة تقوم ببيع منتجها التعليمي أو العلمي للطلبة أنفسهم؟ إذا كانت الإجابة بالإيجاب، فهنا يجب أن يقف المرء بقوة؛ لكي يستفهم عن سبب ذلك، وتداعياته، وعلاقته بالدستور، وواجبات الدولة والتزاماتها بحق الجامعات الحكومية.

يرتبط بالأمر الثاني المشار إليه آنفا، بما هو واقع في المجتمع المصري، إذ يتحدث غالبية خبراء التعليم والتعليم الجامعي والبحث العلمي وكذلك عديد الاقتصاديين، عن أن الدولة تخرق الدستور؛ لكونها لا تنفذ ما ورد به من مسئولية الدولة عن التعليم بمختلف أنواعه. فالمادة 19 من الدستور تقول: “التعليم حق لكل مواطن…. وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للتعليم، لا تقل عن 4% من الناتج القومي الإجمالي….” والمادة 21 تنص، على أن “تكفل الدولة استقلال الجامعات…. وتوفير التعليم الجامعي وفقا لمعايير الجودة العالمية، وتعمل على تطوير التعليم الجامعي، وتكفل مجانيته في جامعات الدولة ومعاهدها، وفقا للقانون. وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للتعليم الجامعي، لا تقل عن 2%من الناتج القومي الإجمالي….”. وبشأن البحث العلمي الذي للجامعات نصيب معتبر به، فقد نصت المادة 23 بشأنه، على أن “…. تخصص له نسبة من الإنفاق الحكومي، لا تقل عن 1% من الناتج القومي الإجمالي….”. وكل تلك المواد، ختمت ولحقت النسب المقررة بها، والتي يجب أن تتحملها الدولة بعبارة “تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية”.

الشاهد أن الدولة خرقت كل ما سبق، فلا هي خصصت تلك النسب المالية للتعليم الذي تديره سواء بالنسبة للتعليم الجامعي أو قبل الجامعي أو البحث العلمي، ولا هي منعت التعليم الخاص؛ كيلا يستوحش داخل مؤسسات التعليم العام، بل أنها حتى لم تكلف نفسها؛ كي تتسق مع ذاتها، فتقوم بتعديل الدستور بإلغاء المجانية، وتريح الناس من ازدواجيتها وضحكها على ذاتها والناس في التمسك الورقي بنصوص، تتغنى بها في تراثها العتيق المزدهر، والذي أنجب قمم وجهابذة من الرجال والسيدات الذين أبدعوا في مجالات الطب والهندسة والسياسة والأدب والقانون والاقتصاد والزراعة والصناعة، سواء داخل مصر أو خارجها.

الناظر إلى ما يحدث داخل الجامعات الحكومية اليوم، يصاب بحالة من الدهشة بالخرق المفزع للدستور بشأن مجانية التعليم. منذ عقدين تقريبا كان الطالب خريج الثانوية العامة يدفع نحو 150 جنيها رسوما سنوية، طالما بقي بالجامعة، اليوم ارتفع هذا المبلغ، حتى وصل إلى 4500 جنيه للعام الدراسي الواحد. في حالة التقدم للدراسة بالشعبة الإنجليزية أو الفرنسية أصبح المبلغ يربو من 45000 جنيه. بالطبع إذا كان الطالب عربيا أو أجنبيا ودخل على الموقع الإلكتروني “أدرس في مصر” والتحق بالجامعة الحكومية، فإنه سوف يدفع أضعاف هذا المبلغ بالدولار أو اليورو، وهذا الأمر الأخير تحديدا لا غضاضة منه، لأنه يدعم الموارد الجامعية دون المساس بالمجانية للمواطن المصري. المهم أنه بعد كل هذه النفقات يجهل الطلاب بالبعد عن الأبحاث، وبعدم محاربة الغش عبر البرامج المتقدمة، مقابل تخصيص ملايين الجنيهات لحفلات الاستقبال والتكريم!!     

خذ أيضا قانون الجامعات ولائحته التنفيذية، حيث يسمح للأستاذ بالإعارة لمدة لا تزيد عن عشر سنوات، بعدها يفصل من الجامعة لو زادت تلك المدة، ما لم يكن هناك عذر كالسيدة التي ترتبط بمرافقة زوجها مثلا. اليوم فتح باب الإعارة على مصراعيه لمدد غير محددة نظير دفع المعار مبلغا، يصل إلى 5000 دولار سنويا بعد مضى السنوات العشر!!! هذا الأمر يبشر بهجرة الأدمغة بتشجيع من الدولة، التي تعترف من خلاله ضمنا بضحالة رواتب العاملين بها، في واحد من أرفع أسلاك العمل وأكثرها مكانة.

خذ كذلك برامج الشراكة التي تقوم بها الكليات المختلفة في عديد الجامعات الحكومية مع الجامعات والكليات المناظرة في فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة، تلك البرامج التي بدأت منذ العام 1999/ 2000، هي ليست فقط تعبيرا من الطالب عن “عقدة الخواجة”، أو هي اعتراف من الجامعة المصرية بعدم الثقة في منتجها، أو الأمرين معا، بل الأدهى والأشد مرارة هي تفرقة اجتماعية مفزعة بين الطالب القادر والطالب غير القادر. وكي نعرف القارئ بالأمر عبر كلمات بسيطة عن تلك الشراكة ومخرجاتها، نشير إلى أنها تقوم على قيام الطالب بالدراسة في الجامعات المصرية الحكومية، وفور الانتهاء من الدراسة وعقب المرور على بعض الإجراءات الإدارية والفنية ذات العلاقة بالجامعة الأجنبية محل الشراكة، يحصل الطالب على ختم تلك الجامعة، وكأنه تخرج منها. هذه العملية كانت تكلف الطالب الواحد في ذلك التاريخ، ما يربو من 10 آلاف جنيه. اليوم تصل تلك التكلفة في بعض الجامعات الحكومية إلى 65 ألف جنيه.

الأكثر عجبا، وشر البلية ما يضحك، الشراكة التي تتم مع جهات مصرية أخرى كأكاديمية ناصر أو المعهد الأمني أو غيره من مؤسسات الدولة المصرية، وفيها يدرس الطالب الحاصل على الدبلوم الفني من مؤسسات التعليم الأوسط، كي يحصل على الماجستير الفني أو الدكتوراه الفنية، ويدفع لتلك الجهة وللكلية المناظرة بالجامعة المصرية الحكومية آلاف الجنيهات يقتسماها سويا، والمقابل هو شهادة ماجستير أو دكتوراه لمنتج بشري ضعيف علميا، مختومة بختم الجامعة الحكومية محل الشراكة، باعتبار صاحبها حاصل على ماجستير فني أو دكتوراه فنية، وبالطبع بعد توقيع الشهادة، يقدم صاحبها نفسه للمجتمع، على أنه حامل ماجستير أو دكتوراه، دون أن يقول كلمة فني أو فنية!!!

هذه هي المآخذ الموجودة، والتي نريد أن نزيدها بالخلاص، مما تبقى من دعم حكومي للجامعات العامة، تلك الجامعات التي خرج جميعها في العام 24/ 2025 من قائمة أعلى الجامعات جودة عالميا، وذلك بتصنيف كيو أس (QS)، وهو تصنيف يضم 1500 جامعة متميزة، وذلك باستثناء جامعة القاهرة التي حصلت على التصنيف رقم 350، والتصنيف رقم 8 عربيا.