تمتعت إيران بنفوذ إمبراطوري في الإقليم على مدى عشرين عاماً، تبدأ من سقوط حكم البعث في العراق 2003، وتنتهي بسقوط حلب وعديد من المدن السورية في يد المعارضة المسلحة في مطلع الشهر الأخير من 2024 م، سقط بعث العراق بسلاح أمريكا وحلفائها من الغرب، وتسقط المدن السورية بسلاح متعدد المصادر منها المعلوم ومنها المجهول، سلاح بعضه من تمويل عرب النفط، وسلاح من ترسانات الغرب، وبينهما سلاح مجهول الهوية، سلاح عرف طريقه إلى المنطقة مع ذروة الحرب الباردة بين السوفيت والأمريكان في سبعينيات القرن العشرين، سلاح شق طريقه عبر أجهزة الاستخبارات إلى جماعات من الشباب المتطرف المندفع للقتال، هذه الجماعات تقاتل بسلاح له أجندة غير أجندتهم، وله دوافع نهائية غير دوافعهم، فقط هناك توافق عابر ولقاء مؤقت بين أهداف المقاتلين وأجندة مصادر التمويل والتسليح، فعندما يكون التوافق بين أهداف الطرفين قائماً، فإن الغرب ومعه عرب النفط يطلقون عليهم ألقاب الجهاد والمجاهدين، ثم إذا انقضى الهدف المؤقت، وانتهى اللقاء العابر، فإن الغرب ومعه عرب النفط يخلعون عليهم ألقاب الإرهاب والإرهابيين. لغرض ما قرر الغرب ألا يتدخل بصورة مباشرة عام 2011 م، لإسقاط نظام حكم الأسد في دمشق بالقوة العسكرية المباشرة، كما حدث في إسقاط نظام البعث العراقي 2003، أو نظام القذافي في ليبيا 2011 م، فضل الغرب ومن معه من عرب النفط تمويل وتسليح عدد كبير من جماعات الشباب المتطرف أغلبهم من السنة سواء العرب أو الأكراد، حيث كان السنة هم وقود المعارضة، وفي المقابل اصطفت الأقليات على أرضية الموالاة مع نظام الأسد. 

نظام الأسد منذ اندلعت الثورة، لم يتردد لحظة واحدة في تكتيك حمامات الدم واستراتيجية الإبادة، حالة خاصة جداً من قسوة الحكام ضد المحكومين، قسوة ليس لها حدود تقف عندها، من قتل إلى تهجير إلى تدمير للعمران إلى تخريب لحضارة سوريا قديمها وحديثها إلى قطع كل سبيل، يمكن شقه للتفاوض والتفاهم والحلول الوسط، ساعده على ذلك كثرة الأطراف الكارهة له التي دعمت في العلن والخفاء جماعات المقاتلين، وحرضتهم على رفع سقوف المطالب، وعشمتهم في نصر قريب نهائي وحاسم على النظام، ثم ساعد النظام على تكتيك حمامات الدم واستراتيجية الإبادة داعموه الكبار وبالذات إيران ،ومعها حزب الله في لبنان وكذلك روسيا، وكلتاهما دخلت بقوات، وشاركت في العمليات، وصار لكل منهما قواعد عسكرية ومناطق نفوذ. 

تدفق السلاح والمال ومعهما التوجيهات والأجندات والولاءات والإملاءات من كل حدب وصوب، فقدت سوريا كل خلايا المناعة الذاتية، كما فقدت الحد الأدنى من الحصانة الداخلية، لم يعد فيها حجر فوق حجر، ولم يعد فيها بشر يثق في بشر، عشر سنوات من القتال، قتال بدأ بدافع الثورة، ثم بدافع إسقاط النظام، ثم بدافع تأسيس سوريا الجديدة العلمانية المدنية التعددية الديمقراطية، ثم تحول إلى قتال من أجل القتال، قتال مقاتلين ضد مقاتلين، حتى بين صفوف المعارضة ذاتها، المعارضة نسيت السياسة وأهدافها وأخلاقها، ثم تحولت إلى قوة حرب، ما دام بقي في يدها سلاح ومال، ثم بسبب هذا السلاح وذاك المال، تحولت المعارضة المسلحة إلى رهائن في يد القوى الخارجية، ومن ثم ابتعدت كثيراً جداً عن الأهداف السامية التي كانت وضعتها لنفسها، حين قررت بناء سوريا جديدة ديموقراطية مدنية علمانية تعددية، وبعد أن ابتعدت عن أهدافها السامية، انزلقت بدفع الوقائع على الأرض إلى مجرد جماعات ذات فكر ديني منغلق متطرف، وإرادتها ليست في يدها، ولا تملك رؤية لسوريا المستقبل أو سوريا ما بعد الأسد، أو سوريا لكل السوريين.

فقد نظام الأسد كل بوصلة وطنية جامعة، كما فقد كل رؤية سياسية تبرر بقاءه، أصبح كل شاغل النظام هو الدفاع عن وجوده وبقائه فقط، وثمن ذلك تخريب سوريا سواء بيد النظام ذاته، أو بيد داعمي النظام سواء روسيا أو إيران أو حزب الله، أو بيد المعارضة المسلحة ذاتها، أو بيد داعميها سواء من عرب النفط أو تركيا أو أمريكا أو فرنسا أو بريطانيا إلى آخر قائمة الأيادي الآثمة التي لم تتردد، ولم تتورع في تدمير واحدة من أزهى وأزهر وأبهى مراكز الحضارة الإنسانية في التاريخ، ألف عام قبل الإسلام كانت سوريا منبت الحضارة، ثم مائة عام من حكم بني أمية كانت دمشق عاصمة العالم المتحضر ومركز السياسة العالمية وقبلة القارات الثلاث المعمورة آنذاك، فمن دمشق حكم بنو أمية من السند في شمال الهند، حتى المغرب وإسبانيا والبرتغال على شواطئ الأطلنطي، من اندلاع الثورة السورية في مارس 2011، حتى اكتساح فرق المعارضة الإسلامية السنية المسلحة حلب وغيرها من المدن ديسمبر 2024 م، ثلاثة عشر عاماً من الإجرام المنظم في حق سوريا وشعب سوريا وحضارة سوريا وتاريخ سوريا، ثلاثة عشر عاماً من الإجرام شارك فيها النظام وداعموه والمعارضة وداعموها مئات الألوف من القتلى، ملايين من المهاجرين، ملايين من النازحين، تدمير معالم عمرانية وثقافية وحضارية، زينت الهوية السورية منذ القرن السادس قبل الميلاد.

السؤال: لماذا تعود سوريا للانفجار من جديد، بعد أن كانت قد هدأت؟، لقد عادت أمريكا ومن معها من الغرب، ثم من عرب النفط، عادوا جميعاً، وقبلوا ببقاء نظام بشار الأسد، وأعادوا فتح السفارات في دمشق، ما يعني التخلي عن الهدف الذي لأجله تم فلسفة وتبرير الحرب؛ وهو سوريا الجديدة العلمانية الديموقراطية المدنية التعددية، قبلوا بقاء الأسد، قبلوا مئات الألوف من القتلى وملايين المهاجرين والنازحين، قبلوا وسكتوا واستأنفوا التاريخ، كأن شيئاً لم يكن، بل بدأ عرب النفط يتلاومون ويذيعون بعض الأسرار من باب مكايدة بعضهم في بعض.

السؤال مرة ثانية: لماذا الآن؟

باختصار شديد: الهدف الآن هو إخراج إيران من سوريا، هو وضع نهاية لحقبة التمدد الامبراطوري الإيراني في الإقليم، هو تصحيح بعض أخطاء الأمريكان الذين أزاحوا السدود، وهدموا العوائق من أمام التمدد الإيراني حين: أسقطوا نظام طالبان السني في أفغانستان 2001، ثم أسقطوا البعث العراقي، وهو حكم سُنة، 2003، ثم أطلقت قوى الفوضى في المنطقة بعد الربيع العربي، حيث وقف الرئيس الأمريكي باراك أوباما- بحماسة شبابية تنقصها الحكمة السياسية- وراء إسقاط عدد من الأنظمة العربية في أكثر من بلد مهم وفي وقت واحد، وذلك دون أن يتبصر من وجود أو عدم وجود قوى سياسية مدنية مؤهلة للإحلال محل الأنظمة التي جرى إسقاطها على عجل، هذه الأنظمة المتساقطة كانت لعدة عقود، تصادر العمل السياسي الحقيقي، كانت تكتفي بأحزاب شكلية فاسدة تابعة لها، تكفي لمهمة تزوير الانتخابات أو إضفاء شكل شرعي سطحي على النظام، وكانت هذه الأنظمة في الوقت ذاته تسمح – تحت ضغط الغرب وعرب النفط – بإطلاق حرية العمل من الباطن للقوى الإسلامية التي كانت الرصيد الاحتياطي الزاخر في خدمة استراتيجية أمريكا والغرب، فبات مصير بلدان الربيع العربي بعد إسقاط الأنظمة أما: الفوضى أو القوى الإسلامية، وهو الخيار الحاد الذي فتح الطريق للثورات المضادة، وعودة الديكتاتوريات في بعض الحالات، وبقاء الفوضى في بعضها وبقاء القوى الإسلامية في بعضها الآخر.

السؤال الآن: هل ممكن إخراج إيران من سوريا؟ هنا يلزم بيان، أن حرب طوفان الأقصى من 7 أكتوبر 2023 حتى كتابة هذه السطور، لها معنيان: معنى ميداني على الأرض، وهو فعل القتال المباشر بين إسرائيل من جهة، وقوى المقاومة الإسلامية في غزة ولبنان واليمن الشمالي من جهة أخرى. ثم لها معنى استراتيجي أعلى، هو الصراع بين نموذجين للشرق الأوسط: نموذج تقوده إيران، ونموذج تقوده إسرائيل: – إيران  التي استطاعت- لأول مرة- تنسيق قوة قتال إسلامية متعدد الأطراف، متعددة المذاهب، متعدد المواقع الجغرافية، المقاومة الفلسطينية في غزة، وهي عرب سنة، ثم المقاومة الإسلامية في لبنان، وهي عرب شيعة، والمقاومة الإسلامية في العراق، وهي عرب شيعة، والمقاومة الإسلامية في اليمن، حيث الحوثيون، وهم عرب شيعة، وإن من مذهب مختلف، وهم الإمامية الزيدية، هذا معناه أن إيران تقود طيفاً متعدد الألوان من العرب بالدرجة الأولى، هذا أخطر تطور جاءت به حرب طوفان الأقصى، إيران تلعب دور جامعة عربية بشكل ما، تنسق بين قوى عربية، وتقودها لخدمة أهم قضية عربية، وهي تحرير فلسطين. هذه الجامعة الإيرانية- العربية، تمثل حلفاً غير رسمي، لكنه حلف واقعي ميداني، تمكن من الصمود المشرف في وجه ترسانة السلاح الصهيوني الأمريكي الأوربي قريباً من خمسة عشر شهراً متواصلة، وكانت نتيجة هذا الحلف الإيراني العربي معاناة مؤلمة ليس فقط للجيش الصهيوني، ولكن اختبار عنيف لفكرة الدولة اليهودية من جذورها . 2 – ثم إسرائيل التي استطاعت، أن تظفر بصمت عربي وإسلامي شامل وكامل، حتى تمكنت في أربعمائة يوم، من الانقضاض الوحشي على آخر قلاع المقاومة الفلسطينية، هذا الصمت العربي الإسلامي الشامل، لم يكن مجرد خنوع ولا خضوع بالمعنى السلبي للخنوع والخضوع، لكنه تعبير عن موقف سياسي، بلورته فصول حرب الإبادة، وكشفته في جلاء ووضوح، هذا الموقف هو الانتهاء الفعلي للعداوة الرسمية من جانب الدول العربية والإسلامية تجاه إسرائيل، ومن ثم انتهاء أي اعتراض رسمي عربي أو إسلامي على وجود إسرائيل، وهذا في حد ذاته انتصار سياسي مهم جداً، أنجزته إسرائيل، قبل أن تكمل مائة عامة من تأسيسها.

الشرق الأوسط الآن، لا يتسع للنموذجين معا في وقت واحد، غير مقبول من وجهة نظر داعمي وممولي ومخططي ومهندسي الحروب الأهلية في الشرق الأوسط، أن تظل رأس إيران مرفوعة، ويدها ممدودة وذراعها أو أذرعها طويلة، تحيط بالمشرق العربي وتحاصره من كل الجهات، بحيث تصل مقذوفات النار إلى تل أبيب من كل حدب وصوب.

السؤال: إذا تقرر إخراج إيران من سوريا، فما مصير النظام الحاكم؟

ثم إذا تقرر إسقاط النظام، فما مستقبل سوريا؟ 

هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل.