قضية الخصوصية والعالمية لا تناقش فقط في العالم العربي، والحديث عن الخصوصية الثقافية والحضارية التي كثيرا ما نسمعها في بلادنا في مواجهة التدخلات الغربية أو “الغزو الحضاري” الغربي، صارت مطروحة في الغرب نفسه بعد عقود من انتشار “الرسالة العالمية”، والتأكيد على أن هناك قيم إنسانية مشتركة، يجب أن تتبناها الشعوب والمجتمعات المختلفة، بصرف النظر عن سياقها الاجتماعي وإرثها الحضاري والتاريخي.

والمؤكد، إن الغرب روج لعقود طويلة لعالمية قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأحدثت قطيعة مع الرؤية الغربية الاستشراقية التي نظرت للحضارات الشرقية في مجملها والحضارة العربية الإسلامية بشكل خاص بصورة استعلائية، وباعتبارها أدنى من الثقافة الغربية.

وقد تغير الحال مع بدايات الألفية الثالثة مع صعود خطاب اليمين المتطرف، بما يمثله ليس فقط من توجه سياسي، إنما أيضا من رؤية ثقافية فيها استعادة للخطاب الاستشراقي، بعد أن تصورنا أنها تجاوزته، فقد توازى مع صعودُ تيار اليمين المتطرف في أوروبا صعودَ ظاهرة رُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) التي تروِّج عَداءَ المسلمين وتربطهم بالإرهاب، ولا سيَّما في ظلِّ ما شهدَته أوروبا من زيادة عدد الهجَمات الإرهابية في السنوات الأخيرة، وخاصة في فرنسا، وبريطانيا، وبلجيكا، وغيرها. وقد دفع هذا الصعودُ بعض الحكومات والأحزاب الأوروبية إلى غضِّ الطرف، عمَّا تطرحه أحزابُ اليمين المتطرف؛ بهدف الحفاظ على كتلتها التصويتية في الانتخابات. ففي أكتوبر 2020، أشار الرئيسُ الفرنسي ماكرون، إلى أن مسلمي فرنسا يكونون مجتمعا موازيا في البلاد، وأن الإسلام يواجه أزمةً في جميع أنحاء العالم.

وقد تبنى رموز اليمين المتطرف في الغرب خطابا فيه تمجيد للحضارة الغربية المسيحية، واستعلاء على الحضارات الأخرى، وخاصة الحضارة العربية الإسلامية، ونظروا إلى المهاجرين سواء المقيمين بشكل نظامي أو من حملوا جنسية البلد الأوروبي، باعتبارهم ليسوا فقط مختلفين عرقيا وثقافيا ودينيا وغير قابلين للاندماج في المنظومة الأوربية، إنما يمثلون تهديدا للقيم الأوربية والحضارة الغربية، وعادوا وأكدوا على خطاب الخصوصية الحضارية الغربية في مواجهتهم، بعد أن كان الغرب في مجمله حتى وقت قريب، يتحدث عن عالمية القيم والحضارة الإنسانية الواحدة.

وقد روج اليمين المتطرف إلى فكرة إعادة بناء المجتمع على أساس الإثنية، أو الجنسية، أو الدين، أو العرق، ويقودهم هذا المفهوم إلى رفض جميع أشكال العولمة لصالح الدفاع عن الخصوصية والامتعاض من الحضارات الأخرى، وهذا يفسر أسباب ممارسة العنف لدى كثير من المنتمين لليمين المتطرف في أوروبا سواء كان عنفا جسديا أو لفظيا.

وقد طرح قطاع من النخب الأوروبية، وخاصة بين اليمين وأقصى اليمين ضرورة التمسك بالخصوصية الحضارية، وكرروا تعبيرات من نوع العصر الذهبي للحضارة الغربية، والتي كان فيها الدين والعائلة واحترام النظام هي السائدة، وعظموا من البحث عن المُخلص، وروجوا نظريات “المؤامرات العالمية”، وعظموا ثقافة وحضارة الماضي.

والمؤكد، أن ازدياد معدلات الهجرة إلي الغرب ساهمت في تحويل قضية المهاجرين من قضية اجتماعية واقتصادية مرتبطة باحتياجات المجتمعات الأوروبية للعمالة الأجنبية إلى  قضية “تهديد ثقافي”، وخرجت عشرات الكتب والأبحاث التي تعالج أوضاع المهاجرين من زوايا جديدة، ويكفي صدو كتاب “الاستبدال الكبير” الذي كتبه الباحث الفرنسي “رونو كامي”، الذي شكل إطارا مرجعيا لمواقف كثير من قادة اليمين المتطرف، وعلى رأسهم المرشح الخاسر في انتخابات الرئاسة الفرنسية الأخيرة إريك زامور، واعتبر فيه المهاجرين المسلمين خطرا على الهوية الأوربية المسيحية، وأنهم محاربون غزاه، يهدفون إلى جعل حياة السكان الأصليين مستحيلة، وإجبارهم على الفرار و”إخلاء الأرض”، وإن هدفهم الوحيد هو تدمير الشعب الفرنسي وحضارته واستبدالهما بالإسلام”.

ويمكن القول، إن هذه الفكرة تبناها بعض من حملوا السلاح، وقاموا بعمليات إرهابية ضد المسلمين، كما جرى في نيوزيلاندا على يد الإرهابي الأبيض الذي قتل مصلين آمنين في أحد المساجد، أو يتبناها بشكل مخفف وسلمي، كثير من رموز أقصى اليمين داخل العملية السياسية الشرعية والسلمية في أوروبا تحت ستار التمسك بهوية كل بلد أوروبي والخصوصية الحضارية والثقافية.

وقد باتت الهجرةُ إحدى القضايا الرئيسة التي أثَّرت أثرًا بالغًا في صعود أحزاب أقصى اليمين في أوروبا، حيث اتفقت على أنها السبب الأوَّل للمشكلات التي تواجهها المجتمعاتُ الأوروبية، وأن الهُوية الوطنية الأوروبية في خطر، ويجب حمايتها من الغزو الأجنبي المتمثِّل في المهاجرين من خلال التمسك أو العودة لشعار الخصوصية الحضارية.

وقد أعادت قوى أقصى اليمين الترويج لخطاب تراجع في أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية، وهو خطاب الخصوصية الحضارية الذي اعتبر كثيرون، أنه بسبب المبالغة في هذا الخطاب بالحديث عن خصوصية وتفوق الجنس الآري، والتمجيد المبالغ فيه للوطنية، واستدعاء مفاهيم التفوق العرقي وغيرها، اشتعلت الحرب العالمية الثانية.

صحيح، أن جانبا كبيرا من النخب الجديدة في أوروبا تبنى خطاب الخصوصية بشكل مختلف عما جرى في فترات سابقة، وبات يأخذ شكلين: الأول بالنسبة للمواطنين الغربيين “البيض”، وهنا رفع شعار الدفاع عن الوطنية، ومواجهة كما قال الزعيم الثاني في حزب التجمع الوطني في فرنسا جوردان بارديلا، “أنصاف الوطنيين” أي مزدوجي الجنسية الذي طالب بمنعهم من تولي مناصب استراتيجية حسّاسة، أما الثاني فهو يتمثل في العودة بشدة لخطاب الخصوصية الحضارية في مواجهة الأجانب والمهاجرين، وتراجع كبير عن تبني مفاهيم عولمة القيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والمساواة بين الحضارات، وهو تحول سيتعمق في العالم مع وصول ترامب للسلطة، وستكون له تداعيات كبيرة على العلاقة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.