هذه ليست المرة الأولى، التي تستهدف فيها سوريا دورا ووجودا.

كانت اتفاقية “سايكس- بيكو”، التي وقعتها الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية عام (1916)، المعول الأول في استهداف وحدة الأراضي السورية.

بدت الخرائط المصطنعة وفق تلك الاتفاقية تعبيرا عن حسابات تقاسم نفوذ ومصالح في عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى، وتَقوض الإمبراطورية العثمانية، التي كانت توصف بـ”رجل أوروبا المريض”.

بعد عام واحد (1917)، صدر وعد “بلفور”، الذي أسس لنشأة الدولة العبرية حاجزا بين مصر والمشرق العربي.

بقرار فرنسي منفرد أعلنه الجنرال “جورو”، نزع جبل لبنان وبعض المناطق الأخرى عن الجسد السوري عام (1920) باسم “لبنان الكبير”.

كانت الذريعة المعلنة: حماية الأقلية المارونية.

لم يكن ذلك من أعمال المصادفات، بقدر ما كان تعبيرا عن استهداف مقصود لوحدة سوريا؛ حتى لا تنهض قوة كبرى في المنطقة، يصعب تحديها، إذا ما اقتربت من مصر وتحالفت معها.

بقرار فرنسي آخر استبق الحرب العالمية الثانية عام (1939)، نزع لواء الإسكندرون عن سوريا، وجرى ضمه إلى تركيا.

 كان ذلك خرقا قانونيا وأخلاقيا لأية قواعد تنسب للانتداب الفرنسي على سوريا- إذا صح أي حديث عن قانون وأخلاق.

بعد ست سنوات، سلمت بريطانيا دولة الانتداب على فلسطين البلد كله للعصابات الصهيونية المسلحة، التي أعلنت عام (1948) قيام دولة إسرائيل.

الانقلابات والخرائط تصنع بفوهات المدافع وتواطؤ السياسة، حتى وصلنا إلى الحرب في حلب والشمال السوري.

بنظرة أولى، بدا التزامن لافتا بين وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية واشتعال النيران في سوريا؛ لمنع تمرير السلاح إلى حزب الله عبر الحدود.

تولت تركيا المهمة رغم إعلانها قطع العلاقات مع إسرائيل على خلفية حرب الإبادة في غزة!

كانت الولايات المتحدة في صلب المعلومات، قبل أن تبدأ العملية العسكرية بتجهيزات ومعدات متقدمة، سلحت بها “هيئة تحرير الشام”، “جبهة النصرة” سابقا المنحدرة من تنظيم “القاعدة”، وجماعات مسلحة أخرى ومرتزقة.

كانت تلك ضربة على العمود الفقري للمقاومة اللبنانية.

بنظرة ثانية، أرادت تركيا استغلال الأوضاع المستجدة في لبنان؛ لتغيير موازين القوى بسوريا.

قوضت عمليا تحالف الضرورة مع روسيا وإيران، الذي استهدف منذ عام (2017) خفض التصعيد، دون قطيعة نهائية؛ بغرض العودة إلى “صيغة آستانا”؛ لتفرض شروطها ورجالها في المعادلة السورية من موقع قوة.

سوغت سياستها باسم الحرب على حزب العمال الكردستاني، الذي تدمغه بالإرهاب، بالتحالف مع جماعات مصنفة إرهابية. كانت تلك مفارقة أخرى.

لم تخف تركيا- هذه المرة- هدفها في ضم حلب بثقلها التاريخي والاقتصادي والثقافي إليها.

كان رفع العلم التركي فوق قلعة حلب التاريخية إثر الاستيلاء عليها، رسالة لا يمكن تجاهلها، إلا إذا كانت الغفلة قد تحكمت في الرؤوس.

بدا “دولت بهجلي” زعيم حزب الحركة القومية والحليف السياسي الأول للرئيس “رجب طيب أردوغان”، واضحا وصريحا في خطابه أمام البرلمان التركي: “حلب تركية” وسط تصفيق حاد.

القضية ليست “بشار الأسد” ولا مستقبل نظامه.

الأخطاء والخطايا لا تحصى، غير أن وحدة سوريا قضية أخرى.

التهاون في الأبجديات؛ يورث الكوارث التاريخية التي لا سبيل لتصحيحها.

بقوة حقائق الجغرافيا السياسية، سوريا ليست بلدا عاديا، ما يحدث فيها الآن، يؤسس لأوضاع ومعادلات وخرائط جديدة في المنطقة بأسرها، مصر على وجه الخصوص.

لا يعقل أن يغيب العالم العربي عن لعب أية أدوار مؤثرة وفاعلة في تقرير مسار الحوادث.

يمكنك الحديث عن حسابات متضادة أمريكية وروسية، إسرائيلية وإيرانية، تركية وأوروبية، دون أن تفهم الاعتبارات الصلبة التي تحكم أي توجه عربي.

إنها غيبوبة تاريخية مفزعة في لحظة تقرير مصير.

قبل الوحدة المصرية السورية عام (1958)، بدت دمشق في أحوال انكشاف استراتيجي ووجودها على المحك، كما يحدث الآن بالضبط.

لم يكن “جمال عبد الناصر” متحمسا للإقدام على خطوة الوحدة الاندماجية، التي كان يلح عليها السوريون، طالبا أن تأخذ الفكرة وقتها حتى تنضج، غير أنه وافق بالنهاية خشية تصدع سوريا بضغوط إسرائيلية ومشروعات انقلابات عسكرية وسيناريوهات لم تكن مستبعدة بغزو يقوده “نوري السعيد” رئيس الوزراء العراقي، الذي كان يقود حلف بغداد في ذلك الوقت.

كانت الوحدة المصرية- السورية خطوة متقدمة، أكدت قدرة العالم العربي على ملء الفراغ بنفسه، دون حاجة إلى أحلاف، تخضع لحسابات استراتيجية ضد مصالحه ومستقبله.

كما بدت تطويرا لنتائج حرب السويس، التي ألهمت حركات التحرر الوطني في العالم الثالث- كأن فوران غضب على الإرث الاستعماري اندلع فيه.

في (٢٨) سبتمبر (١٩٦١)، جرى فصم الوحدة المصرية- السورية بانقلاب عسكري رعته الاستخبارات الأمريكية، ومولته المملكة العربية السعودية، وشاركت فيه الأردن، وآزرته تركيا، وهللت له إسرائيل.

من مفارقات التواريخ، أن “عبد الناصر” رحل في (٢٨) سبتمبر (١٩٧٠)، وهو نفس يوم الانفصال قبل تسع سنوات.

في الحملات المتصلة على الحقبة الناصرية، قالوا إن الوحدة “وهم ناصري”، وأن مصر فرعونية، أو شرق أوسطية، أو أي شيء آخر، غير أن تكون عربية، لكن الحقائق تغلب باستمرار.

فـ”مصر”- بالثقافة والهوية والجغرافيا والتاريخ- مشدودة إلى محيطها العربي، المصائر مشتركة، والقضايا واحدة، وعندما تنكرت مصر لأدوارها، جرى ما جرى لها من تهميش وتراجع في المكانة.

يستلفت الانتباه في أداء “عبد الناصر” لحظة الانفصال مدى إدراكه للحقائق في سوريا؛ وخشيته على مستقبلها.

بعد الانفصال بأسبوع، قال في خطاب بثته الإذاعة المصرية، كأنه يقرأ طالع أيام لم تأتِ بعد: “إن الوحدة الوطنية في الوطن السوري تحتل المكانة الأولى.. إن قوة سوريا قوة للأمة العربية وعزة سوريا عزة للمستقبل العربي والوحدة الوطنية في سوريا دعامة للوحدة العربية وأسبابها الحقيقية”.

“لست أريد أن أقيم حصارا سياسيا أو دبلوماسيا من حول سوريا، فإن الشعب السوري في النهاية سوف يكون هو الذي يعاني من هذا الحصار القاسي”.

مما قال في ظروف الانفصال: “ليس مهما، أن تبقى الوحدة، المهم أن تبقى سوريا”.

في لحظة الانكسار تبدت سلامة الرؤية.

أوقف التدخل العسكري المصري، بعد أن أرسلت قوات إلى اللاذقية خشية إراقة الدماء.

وكان ذلك إجراء سليما، رغم صعوبته، فلا وحدة تتأسس على إراقة دماء.

كان للانفصال عواقب استراتيجية، أوصلتنا إلى الكوابيس المقيمة.

تراجع زخم حركة التحرر الوطني في العالم العربي، وقوة حضور المشروع القومي.

رغم استقلال الجزائر بعد إعلان الانفصال والدخول في معارك مفتوحة أخرى مثل، الحرب في اليمن لحماية نظامه الجمهوري والسيطرة على استراتيجية البحر الأحمر، لم يستعد ذلك المشروع زخمه، الذي تبدى ذات يوم في عاصمة الأمويين.

أمام احتمالات التقسيم البادية الآن في مشاهد النار بالمشرق العربي ومناطق عربية أخرى، فإن الأسئلة تطرح نفسها: لماذا انكسر العالم العربي وفقد ثقته في نفسه ومستقبله، بعد أن حلقت أحلامه في عنان السماء؟.. كيف وصلنا إلى الكابوس؟.. ثم إلى أين المصير؟