منذ أيام قليلة، طالعتنا الأنباء عن عقد اجتماعات مكثفة لتأسيس قوى سياسية جديدة، هي اتحاد القبائل العربية. الاتحاد سبق وأن بزغ على الساحة السياسية المصرية في الأول من مايو الماضي، يومها تعرض للنقد الشديد من قبل القوى المدنية، باعتباره عودة للخلف، فبدلا من إنعاش الأحزاب السياسية القائمة بإصلاح النظام الحزبي، تعمد الدولة إلى تأسيس أحزاب جديدة ذات انتماءات أولية، وكأننا نعود بالتاريخ إلى قرون مضت، حيث التنظيمات العشائرية والقبلية والطائفية والعرقية.

اليوم، وبعد أن هدأت الأمور يعود الاتحاد مرة أخرى للواجهة، ففي نهاية نوفمبر الماضي عقد بفندق كمبنسكي بالقاهرة الجديدة اجتماعا لتأسيس الكيان الجديد، وبعد ذلك، وتحديدا في الأول من ديسمبر، وخشية من عودة الانتقادات؛ بسبب الإطلالة الجديدة للاتحاد، ظهر إبراهيم العرجاني- المتهم بقتل ضباط من الشرطة المصرية منذ عقد ونيف- كواحد من أبرز قادة الكيان الجديد، الذي سرعان ما تغير اسمه إلى “اتحاد مصر الوطني”. وقد برق ضمن قادة هذا الكيان إلى جانب “العرجاني” ستة وزراء سابقين، هم عاصم الجزار وزير الإسكان السابق، وخالد فهمي وزير البيئة الأسبق، وخالد عبد العزيز وزير الشباب والرياضة الأسبق، وعادل لبيب وزير التنمية المحلية الأسبق، والسيد القصير وزير الزراعة الأسبق، ونيفين القباج وزيرة التضامن الاجتماعي السابقة، إضافة إلى علي عبد العال رئيس مجلس النواب السابق، وبعض القيادات الحزبية لأحزاب قائمة بالفعل.                                                                                                                                                                                                           اتحاد القبائل أو اتحاد مصر الوطني، سيكون على الأرجح القوى الجديدة التي يتم إعدادها؛ كي تخوض الانتخابات البرلمانية الجديدة، وهي من سيقود قائمة الدولة التي ستجتمع حولها الأحزاب السياسية.

في انتخابات 2020 البرلمانية، كان مستقبل وطن الحزب اليافع، والجالس على “حِجر” النظام، فهو من أنشأه وأسسه، وأسس من حوله أحزاب أقل أهمية عنه كالشعب الجمهوري وحماة الوطن، وأغلبها أحزاب تضم نخبة معتبرة من الشخصيات العامة إبان حقبة الرئيس الراحل حسني مبارك، وثلة من ضباط القوات المسلحة المتقاعدين.

مستقبل وطن الذي حصل في انتخابات 2020 النيابية على 325 مقعدا من مقاعد مجلس النواب، هو من قاد وضع القوائم الانتخابية، وكان له نصيب الأسد منها. يومها تُرِك لمستقبل وطن تحديد مشاركة الوفد وحماة الوطن والشعب الجمهوري والمؤتمر وغيرهم من الأحزاب، وبالطبع كان كل شيء تحت بصر وسمع السلطة التي ما فتأت، أن قادت المشهد كله من خلف الستار، ومنحت لتلك الأحزاب التي لم يكن لها وجود في الشارع لا قبل ولا بعد تأسيسها أي شعبية، مقرات منيفة في ضاحية التجمع الخامس بالقاهرة الجديدة، بشارعي التسعين الشمالي والجنوبي، يتكلف المقر الواحد منها عشرات الملايين من الجنيهات.

اليوم، وبعد تأسيس حزب القبائل الجديد، هل قام أحد من قيادات الحزب البازغ، وسأل نفسه، لماذا لا نذهب بدورنا لقيادات مستقبل وطن، ونستفهم منهم عن سؤال جوهري: ماذا تشعرون اليوم، وأنتم أصبحتم اليوم بلا فائدة، أو كما يقال بالعامية “راحت عليكم”. أهمية السؤال هو، أن السائل ربما يعني أنه سيكون محل المسئول بعد سنوات قليلة. وما يدرينا، ربما يحدث العكس، أي هل تذهب قيادات مستقبل وطن إلى اتحاد القبائل لإبلاغهم، ما يفيد أن “الزمن دوار” “لا تفرحوا كثيرا”، قد تنقلب الأمور، بأسرع ما تتوقعوا، وكما تقول الحكمة: “المتغطي بلحاف السلطة عار”!!!

مشهد آخر، ربما يحدث، وهو أن يتكرر ما حدث عند نشأة الحزب الوطني الديمقراطي عام 1978، حيث انتقل المئات من أعضاء حزب مصر العربي إلى الحزب الجديد بمجرد إعلانه وقيادة الرئيس الراحل أنور السادات له، أو انتقال الكثيرين من أعضاء الحزب الوطني على سبيل الإعارة إلى حزب العمل الاشتراكي بأمر من الرئيس السادات بغية تأسيس الحزب في ذات العام.

بعبارة أخرى، لما لا يتكرر ما حدث في الماضي منذ أربعة عقود ونيف، أليس لنا شواهد على ذلك. أليس سليمان وهدان القيادي الوفدي الشهير، ومجدي مرشد نائب رئيس حزب المؤتمر، ضمن الهيئة التأسيسية لاتحاد مصر الوطني.  

خلاصة الأمر، إننا نمر بأسوأ مراحل التعددية الحزبية الثالثة التي تأسست في 11نوفمبر 1976. أحزاب تؤسس بأوامر، وتندثر بأوامر، وتقود أغلبية برلمانية بناء على تعليمات، وتجمع تبرعات وتحشد أصوات للمشاركة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وتوزع مواد تموينية، وربما أموال على الناس للاقتراع، كما فعلت الإخوان الإرهابية بالتمام والكمال. والغريب في الأمر، هو إن المؤسسين الحقيقيين لاتحاد القبائل أو اتحاد مصر الوطني لم يعلنوا عن أي جديد أو أي سبب لهذا التغير، وما سيشكله من تغير في بنية النظام الحزبي. كما لم يعلن المؤسسون الحقيقيون أي أسباب للإطاحة برعاية مستقبل وطن!!

واحد من أهم الأمور التي يجب وينبغي أن يلتفت إليها النظام السياسي قبل فوات الأوان، هي أن يُولي نظرة جادة للأحزاب السياسية، النظرة الجديدة تأتي بتغييره لا بإصلاحه. تلك النظرة لا يجب أن تكون منقطعة الصلة عن مقرطة النظام السياسي الموغل في السلطوية والشمولية، أو بعبارة أكثر تهذيبا فتح المجال العام، الذي هو بدوره إعادة النظر في حرية الرأي والتعبير، والحبس الاحتياطي، وحق التظاهر، وحرية المجتمع المدني، والخلاص من تأميم الإعلام، واستقلال القضاء، وتشكيل المجالس المحلية المنسية.. إلخ.

بعبارة أخرى، نحن في حاجة إلى بناء حزبي جديد، لأن إصلاح الثوب البالي ورتقه، ثبت أنه يؤدي إلى فتقه من الناحية الأخرى. واحد من أهم أشكال الإصلاح، أن تشجع الدولة الناس على العمل بالسياسة. لا يعقل أبدا في دولة كمصر بها نحو 70 مليون مواطن، يتمتعون بالحقوق المدنية والسياسية، أن يكون بها في أفضل التقديرات مليون مواطن هم أعضاء في نحو 100 حزب قائم. بعبارة أخرى، تعبر ظاهرة التحزب والتسييس عن حالة إنعاش في الحياة السياسية والتنمية السياسية المتصاعدة، بينما تعبر ظاهرة الاستقلال وعدم التحزب عن قدر من التخلف السياسي.

بعد نحو خمس سنوات، سنكون على شفا انتخابات رئاسية جديدة، هذه الانتخابات وفقا للدستور، لن يترشح فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي مرة أخرى، من هنا مطلوب دماء جديدة، وحملات واسعة للتجنيد النخبوي ليس فقط لإيجاد رئيس جديد للدولة، بل لإعداد كوادر من الوزراء والمحافظين ونواب البرلمان، وأيضا نواب المحليات التي نساها الناس منذ حلها قبل عقد ونيف من الزمن.

البناء الحزبي الجديد، لا شك يتحتم أن يلقي بكل التراث الحزبي المتصل بالتجربة الحزبية الثالثة في نوفمبر 1976 في سلال المهملات، لأنه تراث انهزامي ووصولي وممالئ للسلطة. البناء القادم لو سلمت نوايا القيام به، يجب تأسيسه على فتح المجال العام على مصراعيه، بما يشتمل على وجود أحزاب لها امتداد في الشارع، أحزاب ذات فاعلية، لا تكتفي بمجرد النشأة الورقية أو البيروقراطية كأساس للتواجد. أحزاب تقود مدنية الدولة غير مراقبة أمنيا، وتُخضع كل مؤسسات الدولة بها للهياكل الحزبية الفائزة في الانتخابات. هنا بالفعل، سنكون أنشأنا الجمهورية الجديدة بحق، وهي جمهورية يستغل الناس والمؤسسات غير الرسمية فيها (الأحزاب والمجتمع المدني والإعلام.. إلخ) كافة حقوقهم التي كفلها دستور 2012 المعدل، دون خوف أو فزع.