مقالي هذا ليس تناولا لحدث زلزل الشرق الأوسط، وحمل بذور تغيرات جوهرية في توازنات القوى بالمنطقة، وإنما محاولة لتجنب الغرق في فيضان تداعياته، من خلال طرح رؤية لعلاقات التشابك بين التطورات؛ خلفياتها، وأبعادها، ونتائجها.. ونبدأ بتساؤل استنكاري؛ هل يمكن أن تصيب الغيبوبة مخابرات روسيا وإيران والنظام السوري في آن واحد؟! فالفصائل المسلحة كانت تحت أعينهم في إدلب، لكنها بدعم تركي فعال، تمكنوا من إعداد كوادر لإدارة الدولة، بدءًا بجيش نظامي، يمتلك طائرات مسيرة ودفاعات جوية ومدرعات، وكوادر للإدارة المدنية وتشغيل المرافق والخدمات، ليفاجئوا العالم، بأنهم كلما دخلوا مدينة أو قرية تولوا إدارة دولاب العمل منذ اليوم التالي.

على النقيض كانت سوريا ضحية قيادات «موالاة» منعدمة الكفاءة شديدة الفساد؛ الجيش بعضه يدين بالولاء لإيران، والبعض الآخر لروسيا، والبعض الثالث مشغول بإنتاج وتصدير الكبتاجون، حتى أصبحت سوريا أكثر بلاد العالم إنتاجا وأعلاها تصديرا، وزمرة رجال الأعمال بقيادة رامي مخلوف وعناصر الخدمة المدنية أغرقوا البلاد في الفساد والنهب المنظم.. في عالمنا المعاصر يدرك كل إنسان أسرار ما يجري في بلاده ساعة بساعة، وبعد فوات الأوان فوجئ النظام بعصيان عسكري في مواجهة جحافل الفصائل المسلحة، حاول معالجتها بزيادة الرواتب بنسبة 50%، ولكن السيف سبق العزل، ودخلت الفصائل للمدن والقرى دون مقاومة وبترحيب المدنيين.. مشروعية أي نظام تستند إلى «ولاء الجيش ورضا الشعب»، والنظام كان فاقدا للعنصرين، فلقى حتفه. 

***

تركيا أدارت عملية التغيير في سوريا، وتتحكم في توجيه الأوضاع عقب نجاحها، وذلك بالتنسيق مع الولايات المتحدة وإسرائيل، معتمدين على نفس الأدوات التي أنشؤوها وأعدوها؛ لتنفيذ مخطط الفوضى الخلاقة منذ عام 2011، والذين جمعهم النظام وداعميه «روسيا وإيران» في إدلب ليظلوا خطرا يبرر وجودهم، فاستعادوا بناء قوتهم الذاتية، وسد الثغرات حتى أنجزوا مهمتهم، لينشأ في الشرق الأوسط نظام حكم ثان للفصائل بعد أفغانستان، يلتزم بإسلام سياسي أعده خبراء بريطانيا في التعامل مع المنطقة.

الإشكالية التي تواجه النفوذ التركي، تتعلق بوجود القواعد الروسية «الجوية حميميم والبحرية طرطوس»؛ التي يسعى الناتو لطردها، خاصة بعد تأكيد بشار الأسد في التسجيل الصوتي المزعوم للاستقالة، بأنه وقع قرارات رئاسية بإلغاء الاتفاقات الخاصة بالتعاون العسكري مع روسيا وإيران، لكن علاقات تركيا مع روسيا تتسم بعمق المصالح، وهويتها الدولية تعتمد على عمق العلاقات مع مختلف الأقطاب الدولية، خاصة أن التبادل التجاري بينها وبين روسيا 65 مليار دولار ومخطط زيادتها لـ 100 مليار، وعدد السياح الروس بلغ 3.6 ملايين خلال النصف الأول من عام 2024، يمثلون 12.5% من إجمالي حركة السياحة الدولية.. روسيا تولت بناء محطة «أككويو» النووية في ولاية مرسين التركية، وقد تدخل منافسا لبناء محطتين جديدتين ومركزا لتصدير الغاز الطبيعي لأوروبا، مما يعني أن العلاقات التركية مع روسيا ذات طابع استراتيجي يصعب التضحية بها.

روسيا بمجرد اقتراب قوات الفصائل من قواعدها بمسافة 50 كيلومترا، والتأكد من طبيعة الدعم الأوكراني لها، قامت بإخلاء أسطولها البحري من قاعدة طرطوس، كما أن موقف الفصائل المعلن ضدها قد يدفعها إلى إخلاء القاعدة الجوية، ولا شك في أن وصول أسطول نقل ضخم من ثلاث طائرات نقل IL -76 ووجود طائرتين AN -124 وAn -72 بالقاعدة يأتي تحسبا لتنفيذ ذلك.. والحقيقة أن تلك خسارة فادحة لروسيا، وضربة قاسمة لمصالحها في أفريقيا، التي كانت تديرها من سوريا، مما قد يدفعها لنقلها إلى شرق ليبيا.. خليفة حفتر قد يرحب، حتى لا يتعرض لتهديد الغرب الليبي بدعم تركيا في غياب روسيا، مما قد يدفع أنقرة لمحاولة إيجاد صيغة مع واشنطن تسمح بالحفاظ على الوجود الروسي في سوريا، بدلا من تحوله إلى عقبة ضد أطماعها في ليبيا.

***

دولة الإمارات لعبت دورا مهما في محاولة إقناع الولايات المتحدة- قبل أسابيع قليلة من استيلاء الفصائل على السلطة- بإمكانية رفع العقوبات عن نظام الأسد، وهو ما اشترطت واشنطن لتحقيقه قطيعة دمشق الكاملة مع طهران، وقطع مسارات الأسلحة إلى حزب الله اللبناني، هذا الدور كان امتدادا لجهود أبو ظبي الخاصة باستئناف علاقات سوريا مع الدول العربية السُنيّة، والتي ابتعدت عنها عقب استعانتها بإيران وروسيا لمواجهة الفصائل.. وقبل دخول المسلحين دمشق بـ 24 ساعة قامت طائرة إماراتية تحمل تسجيل «C5SKY -E35L» بثلاث رحلات متتالية بين دبي ودمشق في مهمات إجلاء لأسرة الأسد وقيادات النظام.

***

هناك قاعدة سياسية فرضت نفسها على المنطقة خلال العقود الأخيرة، ينبغي التحسب لها جيدًا، ألا وهي أن كل من أقدم على ضرب عمق إسرائيل يتعرض لتكسير عظام؛ صدام حسين عندما قصفها بصواريخ سكود؛ تم إسقاط نظامه وغزو العراق وتخريبه.. وعندما تجاوزت حماس حدود غزة للمساس بمستعمرات الحزام كان الجزاء القضاء عليها واحتلال غزة، ومحاولة ترحيل أهلها.. نفس المصير لاقاه حزب الله اللبناني بعد قصف حيفا وتل أبيب ومستعمرات الشمال، حيث تم القضاء على قياداته من القمة حتى الصف الثالث بعمليات اختراق مخابراتية، قبل أن يتولى الطيران تدمير الجزء الأكبر من مقاره ومخزوناته العسكرية.. وجاء الدور على سوريا، رغم أنها لم تطلق رصاصة واحدة ضد إسرائيل، إلا أنها فتحت الطرق للأسلحة والخبراء من إيران، فكان عقابها إسقاط النظام.

سوريا من الناحية العملية، فقدت كل عناصر القوة، بعد خروج الجيش من المعادلة الداخلية بسقوط الدولة، واستهداف الكيان لكل بنيته الأساسية من قواعد ومطارات ومراكز تدريب وبحوث ومخازن، ما يسمح بفرض شروط الغرب عليها، أيا كانت الجهة التي تحكمها.. والتوجه الحالي لدى واشنطن أن يتم تثبيت عملية التقسيم على أساس:

القطاع الأول: تابع للأكراد في شرق الفرات، وهم حلفاء أمريكا وأعداء تركيا، ويمثلون العصا التي يتم الضغط الأمريكي بها لتطويع الحليف التركي.

القطاع الثاني: في الشمال بمحاذاة خط الحدود مع تركيا بعمق 35 كيلومترا، تحتله الفصائل المسلحة التابعة لأنقرة.

القطاع الثالث: خاص بجبهة تحرير الشام «النصرة سابقًا»، يمتد من إدلب إلى حلب وحماه وحمص ودمشق ويمتد شرقا.. وجوده يحقق هدف واشنطن والكيان بإغلاق ممرات الدعم الإيرانية لحزب الله في لبنان عبر الحدود، وتوفير مبرر توغل جيش الكيان داخل سوريا بذريعة التخوف من تهديدات «التنظيمات الإرهابية».. الخطورة أنه بمجرد توقف الحرب فسوف تبدأ حربا أخرى بين الفصائل بعضها البعض حول الغنائم والنفوذ.

القطاع الرابع: يضم العاصمة ومنطقة الساحل «اللاذقية» التي يقطنها العلويون، وقد تسعى واشنطن لتأسيس كيان علوي بحمايتها، لتجبر القوات الروسية على الرحيل من قواعدها، إذا ما تلكأت، وذلك حال عجز الفصائل عن السيطرة عليها.

القطاع الخامس: يمرّ من جنوب لبنان والجولان، ويضم أجزاء واسعة من محافظتي درعا والسويداء، ويلتحم مع قطاع «التنف» الذي تحتله القوات الأمريكية، ثم يشق طريقه في الداخل السوري؛ وصولًا إلى العراق، وهو الذي يًطلق عليه «ممر داود»، كجزء من الرؤية «التوراتية» للدولة اليهودية التي يتبناها اليمين المتطرف الحاكم، وتنفيذا للمهمة التي يدعي أن الله أوكلها لشعبه المختار.

***

تداعيات هذه التطورات على المنطقة بالغة الخطورة؛ أول ضحاياها العراق، انتقاما من مشاركة الفصائل الموالية لإيران في قصف مدن إسرائيل، ولنتذكر أن الفصائل المسلحة في سوريا عندما توسعت، وبدأ التنافس والتناحر فيما بينها على فكرة الدولة، كانت أول قفزاتها باتجاه العراق، بعض هذه الميليشيات «الحشد الشعبي» تم ضمه للكيان المؤسسي للجيش العراقي، لذلك فبمجرد الانتهاء من ترتيب أوضاع الفوضى المنظمة داخل سوريا، فسوف تنتقل الفصائل إلى العراق، لتحويلها إلى ثلاثة كيانات سياسية، أحدها شيعي والثاني سني والثالث كردي. 

هذا التفتيت لكيانات الدولتين السورية والعراقية، بما يصحبه من تطورات لا يعني سوى الفوضى والحروب بين مختلف القطاعات، ما يشغل دول الشام عن إسرائيل، ويُنهي استراتيجيات إيران وأذرعها العسكرية في المنطقة، ويُفكك جبهة المقاومة، ويُسقِط وحدة الساحات، وتصبح هشاشة المنطقة دعوة لتوسيع نطاق نفوذ الكيان، وتنفيذ حلم «إسرائيل الكبرى».     

كل هذه التطورات تعني خروج دول الخليج بمكاسب مرحلية؛ حيث ستتمكن أخيرا من مد خط أنابيب الغاز من قطر عبر السعودية والأردن وسوريا في اتجاه أوروبا، وهو الذي كان سببا في نشوب الحرب السورية عام 2011، وستتحول إسرائيل إلى أهم دولة ديناميكية التأثير على دول الإقليم، ونفوذها سيفرض التطبيع على الجميع، وتصبح قوتها مؤثرة وكلمتها نافذة، أما على المستوى الدولي، فإن تحولات الشرق الأوسط تعني أن الولايات المتحدة نجحت في تطويق الروس، وربما طردهم من «قلب العالم»، حتى لو تم ذلك ضمن صفقة، تسمح لروسيا بضم القطاعات التي احتلتها من أوكرانيا، مقابل انسحابها من المنطقة وتجنب التصعيد وتفجير المواقف.

ترامب ليس رجل حرب، بل خبير صفقات، تستهدف إضعاف محور الصين/ روسيا/ إيران/كوريا الشمالية وإجهاض محاولات تأسيس نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، كبديل لنظام القطب الواحد الذي تمسك فيه واشنطن بمقاليد القوة وقدرة الاقتصاد، وهذه التطورات قد تفرض مراجعة دول المنطقة لرؤيتهم الخارجية، وآليات تنفيذها.