إنه زلزال يضرب بنية النظام الإقليمي، ويهدد العالم العربي في صميم وجوده.
سقوط دمشق ينذر بضربات أخرى في المشرق العربي واصلة إلى مصر.
الخرائط قد تتغير جراحيا والحقبة الإسرائيلية على مرمى البصر.
بدا التزامن ما بين وقف إطلاق النار في لبنان والهجوم المباغت على حلب، قبل أن تسقط العاصمة دمشق خلال عشرة أيام، دون قتال من جانب جماعات مسلحة، تدعمها الاستخبارات التركية، وتوصف دوليا بالإرهابية؛ داعيا للتساؤل عما وراء العواصف من تفاهمات وخيانات.
كان منع تمرير السلاح عبر الحدود السورية إلى حزب الله هدفا رئيسيا للاعبين الأمريكي والإسرائيلي، لكنه لم يكن كافيا بذاته؛ لتبرير اضطلاع أنقرة بهذا الدور، الذي يناقض ما أقدمت عليه من قطع علاقاتها مع الدولة العبرية على خلفية حربيها في غزة ولبنان!
ببرجماتية مفرطة حاول الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، أن يستثمر في حروب المنطقة لتعويم دوره الإقليمي من جديد على حساب اللاعب الإيراني.
أراد “أردوغان”، أن يصفي حساباته مع “بشار الأسد”، الذي رفض أي تطبيع للعلاقات قبل انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية.
إنه طلب مشروع تماما، لكنه لم يتحسب للحسابات المتغيرة في صفوف حلفائه الإقليميين بعد وقف إطلاق النار في لبنان.
مع سقوط حلب، وبعدها حمص، كشف بنفسه أنه هو الذي يقود العملية العسكرية معلنا أن: “هناك مرحلة جديدة في سوريا يجري إدارتها بهدوء”.
أراد أن يقول للأطراف كلها: “أنا اللاعب الرئيسي.. لا هيئة تحرير الشام ولا المعارضة المسلحة”، داعيا إلى انفتاح النظام السوري على شعبه والتفاوض معه، كأنه قد حصل على صك الحديث باسمه.
دعا إلى نوع من العودة إلى تفاهمات أستانا لوقف التصعيد في سوريا مع الحليفين الافتراضيين السابقين، روسيا وإيران، لكنه عدل عن ذلك التوجه، عندما ضرب التحلل الكامل نظام “الأسد”، وبدا سقوط دمشق مؤكدا.
لبرهة فكر أنه قد يحتاج “الأسد” للحصول على شرعية ما لأية توسعات تركية داخل الأراضي السورية بذريعة محاربة “الإرهاب الكردي”، لكن الحوادث باغتته، ووجد نفسه أمام لعبة مختلفة، عما تصوره في بداية العملية العسكرية.
انهار النظام تماما، وتخلى عنه حلفاؤه، بدت معضلته، أن شرعية النظام تقوضت إلى الأبد، دون أن تكون قوة الغزو مرشحة لاكتساب أية شرعية.
هل جرت تفاهمات بين اللاعبين الدوليين والإقليميين، قضت بإنهاء حكم “الأسد”؟.. ومن أشرف على هندسة المشاهد الأولى، حتى يصبح ممكنا تسويغ حكم البلاد لـ”هيئة تحرير الشام” المصنفة دوليا، بأنها إرهابية؟!
لم تتكشف الحقائق كلها حتى الآن.
تركيا اللاعب الأول، لكنها لم تكن بمفردها.
بدا خطاب “أبو محمد الجولاني” زعيم “هيئة تحرير الشام” غريبا على مفرداته ومعتقداته، مستعيدا اسمه القديم “أحمد الشرع” لإضفاء طابع مدني حديث على جماعة منحدرة من “القاعدة” وقريبة من “داعش”.
هذب لحيته، وارتدى بذلة تقارب صورة ثوار كوبا، عندما هبطوا من جبال سييرا مايسترا إلى العاصمة هافانا، غير أن الطبع يغلب التطبع، كما يحدث دائما.
انفرد بقرار إسناد رئاسة الحكومة إلى واحد من رجاله بلا خبرة حقيقية، تؤهله لإدارة دولة كبيرة مثل سوريا، دون أي تشاور مع الجماعات الأخرى المتحالفة معه.
مضى بأسرع من أي توقع بإحالة القاضيات السوريات إلى التقاعد، وتحريم بث أغاني السيدة “فيروز” باعتبارها “نصرانية”!
رفعت في بعض تظاهرات دمشق أعلام “القاعدة”، واغتيل علماء في بيوتهم.
بالتجاوزات المرعبة قمعا لمعارضيه وتسميما للمجال العام، خسر النظام السابق أية شرعية منسوبة إليه.
مع سقوط النظام، بدا الابتهاج عاما وكاسحا في المدن السورية.
كان ذلك دليلا دامغا على كراهيته.
هذا ما لا يصح النقاش فيه.
التقطت الكاميرات “رقصات دبكة”، شاركت فيها صبايا.
لن يحدث ذلك مرة أخرى في دولة الخوف الجديدة، التي ترث الآن دولة الخوف المنقضية.
بنظرة أولى، “أردوغان” هو المستفيد الرئيسي.
بنظرة ثانية، رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” مستفيد رئيسي آخر، ربما أكثر من “أردوغان”.
كلاهما حاول أن ينسب ما جرى لنفسه، ويوظفه لمقتضى حساباته السياسية الداخلية.
اعتبر “أردوغان” دوره دليلا على صحة خياراته في تأمين حدود بلاده من خطر حزب “العمال الكردستاني” المتهم تركيا بالإرهاب.
كأننا أمام مشهد عبثي لمحاربة الإرهاب بالإرهاب!
كانت تلك مفارقة فاضحة.
كما سوغ دوره بسعيه لإنهاء أزمة اللاجئين السوريين، التي وصلت إلى صدامات ومطاردات وموجات كراهية تبناها معارضوه.
أراد أن يقول: “لقد كنت على حق”.
باللحظة نفسها، أراد “نتنياهو” أن يقول: “لقد انتصرت”.
بأي نظر موضوعي في حربي غزة ولبنان، لم يستطع “نتنياهو” تحقيق أيا من أهدافه المعلنة، لا اجتث “حماس”، ولا استعاد الأسرى والرهائن في غزة.
كما لم يستطع حسم الصراع مع حزب الله في الجنوب اللبناني، ولا نجح في تفكيكه.
ارتكب جرائم حرب؛ أفضت إلى ملاحقته أمام الجنائية الدولية، فيما إسرائيل نفسها متهمة بالإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية.
مع ذلك كله، يبدو اليوم، كما لو كان قد انتصر استراتيجيا، ويوشك أن يغير خرائط الشرق الأوسط.
هناك عاملان رئيسيان للوصول إلى هذه النقطة الخطرة: الإسناد الأمريكي المطلق لسياساته الوحشية استراتيجيا وسياسيا وعسكريا، والتخاذل العربي المطلق دون أية أدوار تدخل في أي حساب.
لم تهزم المقاومة في غزة ولبنان، لكنها خُذلت تماما.
هذه هي الحقيقة الكبرى، فيما وصلنا إليه.
في استثمار للأوضاع السورية استهدف الجيش الإسرائيلي بمئات الغارات البنى التحتية والعلمية ومراكز البحوث ومخازن الأسلحة الثقيلة ومرابض الطائرات والأسطول البحري.
إنه تجريد سوريا من مقدراتها العسكرية، التي قد تستخدم مستقبلا ضد إسرائيل، إذا لم توقع القوى الحاكمة الآن على اتفاقية سلام، وهو سيناريو، لم يستبعده “الجولاني” في حواره مع الـ”سي. إن. إن”.
ألغيت اتفاقية فض الاشتباك مع سوريا، التي وقعت عام (1974) إثر حرب أكتوبر (1973)، وضمت المنطقة العازلة وجبل الشيخ الاستراتيجي.
وصلت القوات الإسرائيلية، التي توغلت داخل سوريا، إلى بعد (25) كيلو مترا جنوب دمشق.
أبلغ “نتنياهو” واشنطن عدم نيته احتلال أية أراض سورية، وأن التوغل داخلها “مؤقت وتكتيكي”.
ما هو “مؤقت”، يصبح دائما، وما هو “تكتيكي” يستحيل سريعا إلى استراتيجي.
هذا نهج إسرائيلي ثابت.
بتلخيص آخر، إننا أمام نقطة تحول فاصلة في تاريخ المنطقة وعلى مرمى البصر حقبة إسرائيلية، تكاد أن تعلن عن نفسها.






