نجحت سوريا في الخطوة الأولى، مثل كثير من تجارب التغيير العربية، وهي إسقاط النظام القائم، وبقيت أمام تحدي بناء نظام سياسي جديد في ظل إرث سابق من فشل تجارب التغيير العربية بمختلف أشكالها في بناء النظام البديل أو المنشود.

إن النقاش المحتدم حول سوريا تركز على تخوفات معظمها مشروع، ولم يناقش أسباب هذه التخوفات، حتى يمكن مواجهتها وعدم تكراراها في أي بلد عربي آخر، وتصبح المشكلة ليست فقط في التخوف المشروع من الفصائل المسلحة، إنما كيف وصلت سوريا، إلى أن أصبح البديل الوحيد لإسقاط النظام هو الفصائل المسلحة وهيئة تحرير الشام المدعومة من تركيا؟

لقد حول نظام الأسد قضايا الحفاظ على الدولة والجيش والمقاومة ومحاربة الإرهاب إلى متاجرة ومبرر للنهب وقمع الأبرياء؛ فسجن 300 ألف إنسان طوال حكمة، وهو أعلى رقم لمساجين سياسيين في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحول سجن صيدنايا إلى “سلخانة” حقيقية، ارتكبت فيه أبشع الجرائم.

إن نظام بشار الأسد هو الذي وضع فاروق الشرع وزير خارجية سوريا الأسبق (عم أحمد الشرع) تحت الإقامة الجبرية، ورفض أي إصلاحات في نظامه على مدار 10 سنوات، واعتقل آلاف السياسيين من القوى المدنية والديموقراطية وعذبهم؛ لأنهم وقعوا على بيان إعلان دمشق؛ مطالبين فقط بالديموقراطية والكرامة.

لقد نسي أو تناسى البعض، أن الطفل حمزة الخطيب ذو الـ 14 ربيعا الذي تظاهر مع أقاربه في مظاهرة سلمية بمدينة درعا، قتله شبيحة النظام، وظل الناس يتوسلون السلطة لأشهر؛ من أجل أن تحاكم فقط قتله الصبي، ورفضت بكل عنجهية وجبروت، وهنا انتقلت من مظاهرات، تطالب بالعدالة إلى مظاهرات سلمية، تطالب بإسقاط النظام، قام على أثرها جيش النظام وميليشياته بذبح الناس والمتظاهرين علنا في الشوارع واعتقال وقتل الآلاف.

ومنذ ذلك التاريخ، اضطر كثيرون لحمل السلاح، ودخلت الفصائل المسلحة في مواجهات دموية مع النظام، استمرت عقدا كاملا، سيطر بعدها الأخير سيطرة هشة على جانب كبير من الأراضي السورية بدعم إيراني روسي، يشبه الاحتلال.

من حق الناس، أن تقبل أو ترفض البدائل الحالية للنظام، ومن حق كثيرين، أن يقولوا نحن متخوفين، لكن قبلها لا بد من القول، إن التحديات التي تواجه سوريا الجديدة المسؤول شبه الوحيد عنها هو النظام السابق، فالدولة غابت أو هُدمت؛ بسبب سياسات بشار التي حولها إلى مافيا، وقضى على قوة الجيش، وأفسده وحوله إلى ميليشيا تحمي النظام، وتقتل الشعب، وجعل البلد مستباحة من إسرائيل طوال عهده وبعد سقوطه.

على ضوء ما سبق، يمكن القول، إن التحديات التي تواجه النظام الجديد عديدة غالبيتها ترجع للإرث الذي تركة “بشار الهارب”، ويمكن تركيزها في ثلاثة تحديات:

التحدي الأول: التعامل مع بقايا النظام القديم ومؤسساته، هل سينتقم مشروع النظام الجديد منهم، أو يصفيهم أو يحاكمهم محاكمات استثنائية؟ أم سيحاكمهم بالقطع، ولكن محاكمات عادلة، حتى ينالوا جزاءهم على جرائم غير مسبوقة في تاريخ الإنسانية.  

يقينا، يجب أن يحاكم من أجرموا في حق الشعب السوري محاكمات عادلة، ومطلوب أن تلتزم الفصائل بما قاله أبرز زعمائها (أحمد الشرع)، حين أكد على إعادة هيكلة الجيش، ورفض حله، كما جرى في العراق، وكانت نتائجها كارثية، والاكتفاء بمحاكمة الضباط الذين تورطوا في جرائم ضد الشعب السوري.

وسيصبح السؤال، هل يمكن لسوريا أن تتلافى أخطاء تجارب التغيير العربية السابقة، وتحديدا ما يتعلق بالتعامل مع النظام والمؤسسات القديمة؟ ففي سوريا غاب شعار “اجتثاث البعث” الذي صاحب تأسيس النظام الجديد في العراق عقب الغزو الأمريكي في ٢٠٠٣، واللافت أن حزب البعث في سوريا أعلن إنه يؤيد الثورة في مفارقة لافته، قبل أن يعلن أمس تعليق نشاطه.

وقد شهدنا اجتماع زعيم هيئة تحرير الشام مع رئيس وزراء النظام السابق لتنسيق إدارة المرحلة الانتقالية، وهو مشهد لم نره في تجارب التغيير العربية السلمية أو المسلحة التي كان شعار اجتثاث النظام القديم من أهداف قوي التغيير التي أُنهكت في معارك الماضي أكثر من معارك بناء المستقبل. وأصبح من حيث الشكل هناك خطاب معلن، وأداء أفضل لقوى التغيير ويبقى التحدي في استمراره.

أما التحدي الثاني: فيتعلق بالبناء الفكري والسياسي للفصائل المسلحة، وخاصة هيئة تحرير الشام التي تتبنى فكرا إسلاميا خليطا من السلفية الجهادية على مسحة إخوانية مع احترام البيئة المحلية، ورغبة في أن تضع قدما في العالم الحديث، فهل يمكن دمجها في مسار سياسي مدني ديموقراطي يقبل الجميع؟

تجربة هيئة تحرير الشام نفسها في إدارة إدلب، تقول إنها لم تقبل إلا نفسها، وواجهت مظاهرات ضدها ليس بعنف النظام، ولكنها اعتقلت بعض المعارضين، فكيف سيكون أداؤها بالنسبة لسوريا كلها، وهي تقترب من السيطرة على السلطة؟ هل ستقبل ومعها باقي الفصائل بقواعد دستور مدني ديموقراطي؟ 

وإذا افترضنا أن هيئة تحرير الشام لا زالت كما هي تنظيما متطرفا تغير فقط في الشكل والأسلوب، ولم يتغير في المضمون، فإن السؤال المطروح يتعلق بقدرة القواعد الدستورية والقانونية الجديدة، أن تفرض على مختلف الفصائل السورية، بما فيهم هيئة تحرير الشام، قواعد تلتزم بها وتكون قادرة على دمج من يقولون، إنهم مؤمنون بهذا المسار، وهم الغالبية العظمى من السوريين، ومواجهه من سيحاربون هذا المسار، وأبرزهم “طاعون داعش”.

سيصبح التحدي الأكبر أمام سوريا هو بناء مسار سياسي انتقالي ناجح وفعال قادر على استيعاب الجميع، صحيح أن المخاطر قائمة، وخاصة فيما يتعلق بحجم مراجعة هيئة تحرير الشام لأفكارها أو على الأقل جانب منها، إلا أن نجاح السوريين في تأسيس مرحلة انتقالية جديدة يتم التوافق على قواعدها القانونية والدستورية، وتطبق بصرامة على الجميع، سيجعل الفصائل في وضع أفضل في التعامل مع لحظة توزيع المناصب والجري نحو السلطة، لأنه ثبت أنها بداية التناحر والانقسام في أي تجربة تغيير عربية؛ لأنها تأتي مبكرة وفي ظل غياب القواعد المنظمة للعملية السياسية ومؤسسات الدولة المحايدة والرادعة أيضا، فيتحول الخلاف بينها إلى صراع، ومن ساحة مواجهة بالكلام إلى مواجهة بالسلاح.

معيار النجاح الأساسي في التجربة السورية، سيكون في صلابة المرحلة الانتقالية والبناء الجديد الذي سيُبنى، وليس إذا كان الفارق الفكري بين الجولاني وأحمد الشرع حقيقي أم زائف.  

أما التحدي الثالث: فيتعلق بالأطماع الخارجية والجرائم الإسرائيلية التي فاقت كل الحدود، فصادم أن تقرر دولة الاحتلال تدمير ما تبقى من قواعد دفاع جوي ومطارات لدى الجيش السوري لمجرد خوفها، من أن تقع في أيدي التنظيمات المسلحة، وهو تحد خطير؛ لأن إسرائيل نسقت مع استبداد بشار الأسد، ولكنها ستواجه أي دولة مدنية ديموقراطية، يؤسسها الشعب السوري، وهو تحد يحتاج إلى حصافة أي قيادة جديدة في دمشق؛ لأن معركة سوريا الأولى في الوقت الحالي ستكون بناء نظام سياسي جديد، يلملم جراح أكثر من نصف قرن من الإجرام “الأسدي”، وهي المعركة الأساسية في الوقت الحالي.

أما دور تركيا، فصار أساسيا، بعد أن دعمت بشكل مباشر الفصائل المسلحة، ولديها طموحات إقليمية ومخاوف من التنظيمات الكردية، سيجعلها حاضرة بقوة في ترتيبات ما بعد بشار الأسد، وهو تحد يمكن التعامل معه إذا وجدت سوريا حاضنة عربية تدعمها، خاصة بعد تراجع الدور الإيراني والروسي.

التحديات أمام سوريا كبيرة، ولكن الشعب السوري العظيم نجح في إسقاط واحد من أبشع النظم الديكتاتورية في تاريخ الإنسانية، وهو إنجاز لو تعرفون عظيم.

.  

=