(سلسلة من ٤ مقالات تقترح البدائل بعد الطوفان والزلازل والبراكين)
لم أشرع في كتابة هذه السلسلة، إلا بعد أن تشبعت حزنا وغضبا من الانكسارات التي عصفت بجبهتي المقاومة العربيتين اللتين بقيتا ناشطتين ضد الاغتصاب العنصري الصهيوني للحقوق العربية، وهما طبعا حركة حماس الفلسطينية، وحزب الله اللبناني، و هو ما لا يغض من إعجابي بصمودهما المقدر لمدة أطول من عام أمام حرب الإبادة الجماعية عليهما، وعلى الشعبين الفلسطيني واللبناني من عدو بالغ الشراسة والعنصرية، ويمتلك كل ما أنتجته الترسانة الأمريكية من أحدث وأقوى آلات ومواد الفتك والدمار، ويحصل من أجهزة مخابراته وأجهزة مخابرات حلفائه على أدق وأفضل المعلومات اللازمة لعملياته الحربية.
بالطبع، كنت مثل كثيرين غيري، ممن يرفضون سياسيا وأخلاقيا نظام بشار الأسد الساقط في سوريا، وكذلك، ممن يرفضون مذهبية أو طائفية الحرس الثوري الإيراني وحلفائه، نستطيع أن نفرق بين هذا الرفض، وبين تأييدنا لمبدأ وحق المقاومة ضد إسرائيل ولجبهات إسناد هذه المقاومة، سواء في إيران ذاتها، أو في سوريا ولبنان والعراق واليمن.
من البديهي أيضا، أن هذا التأييد لمبدأ وحق المقاومة لا يعني التأييد المسبق والدائم لكل حسابات وقرارات المقاومين، لا سيما قرارات واختيارات القيادات، كما لا يعني ذلك الموافقة المسبقة (على بياض) على تقويم هذه القيادات لما جرى، ونتائجه واستخلاص دروسه وتصور الخطوات والاستراتيجيات التالية.
كما يقول عنوان السلسلة، فهي عملية مراجعة كبرى لكل اختياراتنا الأساسية نحن شعوب المنطقة المسماة بالشرق الأوسط في السياسات الداخلية والخارجية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي وصلت إلى فشل لا مراء فيه على جميع الجبهات تقريبا اقتصادا وسياسة وثقافة وتعليما… إلخ، فضلا عن الاستسلام الصامت (بل والمشجع أو المغتبط أحيانا) لسياسة الهيمنة الإقليمية الإسرائيلية.
هذه المراجعة تهدف- كما يقول العنوان أيضا- إلى طرح بدائل لمجموعة الاختيارات والسياسات الكبرى التي تبنتها التيارات الرئيسية في الحكم والسياسة، ومن ثم في الحرب والسلام في المنطقة، ولم تؤد إلا إلى تلك النكبات، وأتصور أن أبدأ بالقضية الفلسطينية لتأتي الحلقة الأولى بعنوان: “المستقبل الفلسطيني… العودة لحل الدولة الواحدة”، وسيجد القارئ في سطور تلك الحلقة ليس فقط أسباب استحالة حل الدولتين، لاستحالة فرضه بالقوة على إسرائيل، وذلك للأسباب التي سنذكرها في حينها، وإنما أيضا كيف أن طرح حل الدولتين يسهل لإسرائيل وحلفائها الإمبرياليين الهروب من القضية الفلسطينية كقضية حقوقية وقضية تحرر وطني، و يبرر إعطاء الأولوية للحق الإسرائيلي في الأمن والدفاع عن النفس، في بيئة عالمية مؤهلة من الأصل، ودون استثناء للتعاطف مع إسرائيل والحركة الصهيونية، فما بالنا والمقاومة المسلحة نالها ما نالها مؤخرا، وطوال أكثر من عام من خسائر وهزائم وآلام، شارك في تحملها الشعب الفلسطيني كله، خاصة مواطني قطاع غزة، علما بأن حل الدولة الواحدة الديموقراطية العلمانية للفلسطينيين واليهود، كان هو مشروع الحركة الوطنية الفلسطينية الأصلي، الذي تكاتفت القوى العالمية والإقليمية للضغط على الفلسطينيين لإسقاطه، من أجل تمرير حل الدولتين.
وفي الحلقة الثانية، سيكون موضوعنا هو: “دولة المواطنة التنموية بديلا لسياسات الهوية”.
المعنى هو أن تكون دولة الحقوق والحريات والتنمية، هي جوهر وفلسفة الحكم والسياسة في الإقليم، ولا يتسق هذا المفهوم للدولة فقط مع مبدأ حل الدولة الديموقراطية الواحدة للقضية الفلسطينية، حيث ينبذ سياسة الهوية اليهودية الخالصة لإسرائيل، ولكن هذا المفهوم أيضا هو إجابة التاريخ على فشل حقبة الجمهوريات العسكرية ذات الأيديولوجيات القومية، وهي الحقبة التي سادت في الإقليم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكتتويج لحركات التحرر الوطني من الاستعمار التقليدي، والتي تصدت- دون نجاح- لمواجهة إسرائيل، وانتدبت نفسها وصية على القضية الفلسطينية، ثم تبنت مشروعات مختلفة للوحدة العربية، باءت كلها بالفشل، كما تبنت مشروعات تنموية عصف بها الفساد، والديكتاتورية، والجهل في أحيان كثيرة، فيما لم يتبق في نهاية المطاف من تلك الجمهوريات سوى تشكيلات عائلية فاسدة، حتى النخاع أو جماعات مصالح أقرب إلى التشكيلات العصابية، كانت آخر تجلياته الوضيعة ما جرى في سوريا ، في تكرار لما حدث من قبل في ليبيا والعراق واليمن وتونس والجزائر… إلخ، بل وبدرجة أخف في مصر، وفي عموم موجات الربيع العربي المترنح، لكن احتياج الإقليم ككل لنبذ سياسات الهوية، والتركيز على الحقوق والحريات والتنمية، ينبثق من كارثية سياسات التمييز القومي والطائفي والمذهبي المتأججة منذ عقود من الزمان، داخل الدولة الواحدة، وبين الدول وبعضها البعض، ثم إن سياسات الهوية كانت هي المصدر الأول لسياسات احتكار السلطة، وإقصاء الآخرين بالكامل من الحياة السياسية.
وأما الحلقة الثالثة، فتقترح نظاما إقليميا جديدا، يقوم على التعاون الاقتصادي والأمن الجماعي، وسيكون تأسيس هذا النظام هو الاستطراد الطبيعي لقيام السياسة والحكم في مختلف دول الإقليم على مبادئ الحقوق والحريات والتنمية، وليس من منطلق الهوية والقومية المتطرفة والأصولية الدينية، ومن البديهي، أن القول بالتعاون والأمن الجماعي يتناقض تماما ونهائيا مع أية خطط أو نزعات للهيمنة الإقليمية كالتي تفكر فيها إسرائيل حاليا، منفردة ،أو بالتعاون مع آخرين، وبالطبع ستطرح قضية التسلح النووي في المنطقة نفسها في سياق هذه الحلقة.
وستخصص الحلقة الرابعة والأخيرة للإجابة على السؤال الذي لا بد، وأنه تبادر إلى أذهان الكثيرين: وهو ما مدى واقعية أي تحليل ينطوي على تنبؤات واقتراحات، ويفترض أن إسرائيل ستتعاون مع هذه المراجعات الكبرى، وتقبل البدائل المذكورة ترتيبا عليها، لا سيما وأن إسرائيل هذه تحظى بتفوق كاسح في جميع جوانب معادلة القوة الشاملة، وأنها غيرت بالحرب وجه الشرق الأوسط بالكامل لمصلحتها، و لا يبدو في الأفق احتمال، ولو محدود أن يخسر اليمين القومي والديني السلطة هناك في المستقبل المنظور، كما لا يوجد احتمال ولو ضعيف، أن يتراجع التطابق الكامل بين اليمين الأمريكي بقيادة دونالد ترامب، وبين هذا اليمين الإسرائيلي ورديفه الصهيوني في قلب الحياة السياسية الأمريكية، ليس فقط ضد كل ما هو فلسطيني وعربي ومسلم، ولكن أيضا ضد كل ما هو حق وعدل وقانون.
لنبدأ ونرى إلى أين ستأخذنا الحلقات في نهاية السلسلة؟
…………………
وإذن إلى اللقاء في الحلقة الأولى: “المستقبل الفلسطيني… أو العودة لحل الدولة الواحدة”.
◦