بدأ خلال الفترة الأخيرة طرح قضايا اللاجئين في مصر من زوايا محلية ودولية، وذلك طبقا لتقديرات سياسية، خلصت إلى أن الصراعات المحلية والإقليمية هي صراعات ممتدة، وبالتالي سوف يترتب عليها تضخم أعداد اللاجئين الموجودين في مصر.
في هذا الصدد، مرر مجلس الشعب المصري قانون لجوء الأجانب، حيث يتم حاليا بلورة الصيغة التنفيذية للقانون، كما بدأت المنظمات التابعة للأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الأوروبية، تهتم حاليا باستطلاع الحالة الميدانية لهؤلاء اللاجئين على مستويات عدة، فيما نجحت مفوضية اللاجئين في تسجيل حوالي مليون حالة فقط خلال الفترة الأخيرة، حيث من المتوقع، أن تصل كتلة اللاجئين المسجلين مليوني إضافية خلال العام ٢٠٢٥.
وقد يكون من نافلة القول، إن اللاجئين السودانيين هم كتلة متمايزة، ولهم سمات وملامح خاصة، من هنا أطرح مقاربة في مقالين الأول، عن سمات وملامح هذه الكتلة، والثاني ما أعتقد أنه مقاربات مقترحة للتعامل المصري مع هذه الكتلة التي يمكن رصدها في إطار أربعة معطيات في تقديرنا، هي ضخامة العدد، فهم تقريبا نصف عدد اللاجئين الموجودين على الأراضي المصرية ليس فقط نتيجة الصراع العسكري الأخير، ولكن لأسباب استثمارية وسياحية وصحية وتعليمية وغيرها، وهو الأمر الذي ينتج عنه تمثيل الكتلة للفئات الاجتماعية السودانية، بما تتضمنه من تباين اقتصادي طبقي، وكذلك اجتماعي وثقافي، كما يشكل عمق وتشعب العلاقات المصرية السودانية على المستويين التاريخي والاجتماعي، معطٍ ثان، حاكم للتفاعلات بين الشعبين على الأراضي المصرية، والذي أنتج ما يمكن أن نطلق عليه وجدانا مشتركا.
أما المعطي الثالث، فهو حالة وطبيعة الثقافة والأعراف السودانية، والتي يترتب عليها سلوكيات اجتماعية محددة، أما الاختلاف العرقي والإثني بين الشعبين، فهو معطٍ مسكوت عنه في العموم، وذلك على الرغم ما ينتج عنه من مشكلات في الإدراك والتفاعلات بين الطرفين، كان لها انعكاسات في الشارع المصري.
في هذا السياق يمكن أن نلحظ عددا من الظواهر الجديرة بالرصد والمتابعة.
١- على المستوى القانوني:
هناك ارتفاع لمستوى التوقعات من الجانب السوداني لحجم وطبيعة الاستيعاب المصري للكتلة السودانية الضخمة، لاعتبارات متعلقة بالحرب من ناحية وطبيعة العلاقات المتميزة بين البلدين من ناحية أخرى، من هنا يتجاهل الجانب السوداني أمرين تجاه الدولة المصرية لتحجيم عدد المتدفقين إليها، وكذلك رغبتها في إحصاء أعداد اللاجئين بشكل عام، أما الأمر الثاني، فهو تجاهل القواعد المنظمة لعمل بعض المؤسسات مثل المؤسسات التعليمية، من هنا وقع حتى الجانب الرسمي في أخطاء في الممارسات؛ ترتب عليها إغلاق بعض هذه المؤسسات.
في المقابل، فإن السودانيين يعانون من تعقد الأوضاع القانونية الخاصة بهم، من حيث صعوبة الإجراءات المرتبطة بالحصول على الإقامات القانونية، وبيروقراطيتها، وكذلك تجاهل آلية الرقمنة فيها التي لم يتم اللجوء إليها إلا على صعيد ضيق مؤخرا. وربما يكون من أهم الأمور التي يجب الالتفات إليها، أمران عدم توافر فيزا الدخول للطلاب الحاصلين على موافقات وقبول من جامعات مصرية رغم تسديد الالتحاق بهذه الجامعات، والثاني مبالغة بعض الجامعات في الرسوم المفروضة على السودانيين خارج نطاق المنح الدراسية أو حرمانهم من الحصول على نتائج الامتحانات، إلا بعد تسديد الرسوم، والسلوك الأخير يطبق على المصريين أيضا.
وفي ضوء اتجاهات القانون الجديد للجوء الأجانب، فإن هناك شكاوى من طول الفترة التي يتم البت فيها في أحقية الحصول على حق اللجوء من الدولة المصرية، وكذلك العبارات الفضفاضة في القانون المرتبطة بتهديد الأمن القومي المصري، فضلا عن حظر حق التنظيم على المستوي النقابي والاجتماعي.
أما على صعيد النخب الاقتصادية والسياسية والأكاديمية، فإن معظمها يعاني حاليا، مما قد يطلق عليه حبسا في مصر، حيث لا يتاح لأغلبيتهم حرية الدخول والخروج من مصر، إما لمتابعة أعمال أو حضور فعاليات سياسية وثقافية في الخارج، حيث يتطلب الأمر موافقات أمنية، لا تتاح إلا لفئات محدودة، الأمر الذي يشكل معاناة وتذمرا من هؤلاء، يتم التعبير عنه دوما، وفي كافة المناسبات، حيث تحرص هذه الفئات على الحصول على إقامات سياحية، وتتجنب فكرة التقدم لطلب لجوء إلى مصر لعدد من الاعتبارات، منها وجداني ومعنوي، إذ أن حالة اللجوء لا تقبلها أوضاعهم الطبقية والاجتماعية، وهي تحرمهم من فرصة العمل في السوق المصري في قطاعاته الاستثمارية، أو في السياقات غير الرسمية المقدر حجمها بـ ٣٠ مليون نسمة حاليا، كما أن فكرة اللجوء في حد ذاتها تخاصم فكرة، أن مصر بلدهم الثاني في ضوء الروابط الاجتماعية والمشتركات الثقافية، وهو غير مقبول لا للمصريين ولا للسودانيين.
في هذا السياق، يحوز قانون لجوء الأجانب الذي تم تمريره من مجلس النواب مؤخرا على جدل كبير بين السودانيين، وذلك من زاويا متعددة، منها ما يرتبط بالاتجاهات العقابية فيه لممارسة تهديدات للأمن القومي المصري وفق عبارات فضفاضة وغير محكمة، وبالتالي تشكل مظلة واسعة لإمكانية إبعاد وترحيل أو حتى الوقوع تحت طائلة القانون، ومنها أيضا الحرمان من القدرة على التنظيم النقابي والاجتماعي، وهي أمور نجح فيها مهنيون سودانيون مثل المهندسين والصحفيين، وكانوا في تفاعل إيجابي مع نظرائهم المصريين في النقابات، وأحرزوا نجاحات في التفاعل من شأنها في تقديرنا الانعكاس بشكل إيجابي على مستقبل العلاقات بين البلدين.
٢- على المستوى الاجتماعي:
الاتجاهات الرئيسية لسلوكيات السودانيين الاجتماعية، تتجه نحو التكتل لأسباب متعددة، منها الشعور بالأمان وسهولة التواصل بين العائلة الواحدة، وكذلك إمكانية ممارسة التقاليد، والأعراف اليومية المعتادة لديهم في ظاهرة من الممارسات غير مرصودة في بلدان الخليج مثلا.
ويمكن التمييز بين الفئات الاجتماعية السودانية على المستوى الاقتصادي، طبقا لأماكن سكنهم، إذ أن غالبية الفئات العليا من الطبقة الوسطى، هما خارج القاهرة التاريخية وفي مجتمعات الأسوار “الكمبوند”، كما أن غالبية هذه الشرائح الاجتماعية ينتمون إلى الفئات الاجتماعية المنبثقة عن فترة حكم الرئيس البشير أو المغتربين في الخليج، أو في المهاجر المختلفة، وقد أسس بعض من هؤلاء أعمالا تجارية كالمطاعم والمقاهي، ومحلات الملابس الفاخرة، ولكن بما لا يقارن بالسوريين مثلا، من حيث اتساع حجم الظاهرة.
كما احتفل السودانيون أيضا، بمناسباتهم الاجتماعية، وخصوصا الأفراح في بذخ ظاهر، لا يتناسب أخلاقيا، لا مع ظرف الحرب، ولا مع وجود كتل من المعوزين السودانيين في كثير من مناطق القاهرة والجيزة.
في سياق مواز، فإن الفئات الوسطى والدنيا من السودانيين، فهي متكتلة في مناطق فيصل والهرم بالقاهرة، كما ذهبت شرائح منهم لكل من الزقازيق والإسكندرية، إذ مارس بعضها أنشطة اقتصادية، تؤمن لهم لقمة عيش مطلوبة كالمخابز ومحلات العطارة والتجميل السودانية.
الفئات الفقيرة من السودانيين التي لجأت إلى مصر؛ نتيجة الحرب فقد تكتلت على أطراف القاهرة في مناطق كفر طهرمس وأطراف مدينة أكتوبر في أوضاع اقتصادية وإنسانية مزرية، حيث يمكن أن يعيش أكثر من أسرة في شقة واحدة، بلا أي أثاث أو قدرة على تلبية الاحتياجات الإنسانية الضرورية.
على المستوى النفسي:
تشكل الصدمات النفسية المترتبة على الحرب السودانية سببا رئيسا في ممارسات سودانية سلبية، منها اللجوء إلى المخدرات أو الانتحار، خصوصا بين الشباب في الفئات الاجتماعية العليا، وما دون الوسطى، حيث حرم بعضهم من إما من استكمال تعليم مرموق أو المعاناة من حالة تعقد الإجراءات في الجامعات المصرية الدارسين بها أو الحصول على فرصة التعليم أصلا؛ نتيجة ظروف اقتصادية، كما شهدت وسائل المواصلات العامة، حيث تحدثت مع شهود عيان لوقائع من هذا العنف الذي مارس بعضه مراهقات وسيدات.
وبطبيعة الحال، تشكل حالات الترحيل القسري التي تمارس أحيانا من السلطات المصرية؛ سببا في تراكم الصدمات والشعور بالقلق، وافتقاد الأمان، خصوصا تحت مظلة إدراك سوداني لمصر، ولو جزئي له أبعاد عرقية ولونية، بما يعقد الموقف، خصوصا مع استيراد قطاعات من المصريين لخطابات اليمين العنصري من أوروبا ضد اللاجئين، بسبب الضغوط الاقتصادية المحلية.
إجمالا في تقديرنا، أن الكتلة السكانية السودانية هي كتلة سوف تستمر في الوجود بمصر لأسباب متعلقة باستمرار الحرب الراهنة على الأرضي السودانية، وعلى ذلك نحتاج إلى طرح مقاربات من شأنها تحسين ظروف هؤلاء على المستوى الإنساني الشامل بأبعاده القانونية والاجتماعية والنفسية، وهو حق مكفول لهم تحت مظلة القوانين والاتفاقات الدولية الملتزمة بها مصر، وبالتوازي مع ذلك مطلوب ضمان تدشين حالة إدماج ثقافي واجتماعي للسودانيين من شأنها تحجيم الضغوط الاقتصادية والأمنية والاجتماعية في مصر، وضمان تموضع العلاقات الثنائية الرسمية والشعبية بين مصر والسودان في مستويات آمنة، ومحققة لمصالح البلدين.