قرأت خبراً في العديد من المواقع والصحف الإلكترونية، يفيد بأن البرلمان الفرنسي قد قام بسحب الثقة من الحكومة الفرنسية، وذلك بعد ثلاثة أشهر فقط، من تولي تلك الحكومة السلطة، وذلك بعد أن صوت 331 نائباً من إجمالي عدد النواب الفرنسيين البالغ 574، وحينما بحثت عن أسباب سحب الثقة السريع من الحكومة، وبهذه الطريقة، وجدت أن ذلك كان رد فعل لسعي رئيس الوزراء الفرنسي ميشيل بارنييه، لتمرير الميزانية، بما تضمنته من خفض مبلغ 60 مليار يورو من موازنة الإنفاق على الضمان الاجتماعي، وحينما رفض البرلمان الفرنسي هذه الميزانية، لجأ رئيس الوزراء إلى محاولة تمريرها عن طريق رئيس الدولة “بقرار رئاسي”، إلا أن البرلمان الفرنسي كان تحركه أقوى من تحرك رئيس الوزراء، مما أدى إلى سحب الثقة من الحكومة الفرنسية.
المدهش في الأمر بشكل أولي، أن ما فعله رئيس الوزراء الفرنسي، لم يكن نوعاً من الاستخفاف بالمال العام، أو إحدى جرائم الفساد الماليين، ولكنه كان يسعى بمحاولته تمرير ذلك القرار إلى استعادة التوازن المالي للدولة الفرنسية، وهو ما يؤكد أنه يسعى بعمله إلى الصالح العام، وليس لمنفعة أو مصلحة شخصية، سواء له أو لغيره، لكنه فقط لمحاولة الالتفاف حول الرقابة البرلمانية، والتي لها حق مراقبة الحكومة في تصرفاتها، كان له جزاء سحب الثقة منه ومن حكومته بأكملها.
كما أن الأمر بشكل كلي، يخلص في كون الحكومة الفرنسية كان مسعاها بهدف الحفاظ على اقتصاد البلاد، في ظل حالة من الكساد المالي الذي تمر به الدولة الفرنسية، وهو ما يعني أن عمله خالصا لصالح الوطن، لكنه لمجرد تحايله على قواعد الديموقراطية، ومحاولته الخروج من حيز الرقابة النيابية، وهو ما يعني فقط مخالفته لأساليب ديموقراطية الحكم، بسعيه لتجاوز هذه الرقابة، فكان هناك إصرار من جانب الكتل النيابية، التي تراعي حقوق المواطنين، وتسعى لاحترام قواعد الديموقراطية.
أما إذا ما تطرقنا إلى 8موضوع القرار الذي كانت تسعى الحكومة الفرنسية عليه، فإنه كان يصب في خانة تقليل الإنفاق على الضمان الاجتماعي، وهو الأمر الذي كان سوف يعود، في حالة إقراره، على حرمان أو انتقاص بعض الحقوق الاجتماعية المقررة للمواطنين، وهو الأمر الذي لم يجد صدى لدى الكتل النيابية، والتي رفضت مقترح الحكومة أولاً، ثم كانت الخطوة التالية، هي سحب الثقة من الحكومة الفرنسية.
يذكرني هذا الأمر بحالنا في الرقابة النيابية على أعمال الحكومة، أو بمعنى شمولي مدى نفاذ الرقابة النيابية على أعمال السلطة التنفيذية، ذلك الأمر الذي لم نجد له صدى لدينا، فعلى سبيل التمثيل المقارن، فقد تم تمرير قانون الضمان الاجتماعي المصري، والذي تقدمت به السلطة التنفيذية، وهو الأمر الذي يخل بشكل كبير بالدعم العيني المقدم للمواطنين، وذلك بوضع اشتراطات عديدة، بخلاف استبداله بدعم نقدي، في ظل أحوال معيشية، لا يقف فيها حال العملة المصرية عند مستوى يكفي لضمان ثبات جزئي، وهو الأمر الذي يجعل من الاستبدال في حد ذاته، لا يقف أمام التضخم المالي بحال من الأحوال.
لكن الأهم الشامل في الموضوع، هو أمر مراقبة السلطة التشريعية لأعمال السلطة التنفيذية، ذلك إذ أن سيادة القانون من الأصول الدستورية المتوافق عليها في كافة النظم القانونية، وهي تعني بوجه من الوجوه، أن تمارس الدولة سلطاتها وفق أحكام القانون، وهو بالأمر بالبديهي، ما يؤكد على أن تكون السلطة ذاتها قد تأسست وفق أحكام القانون، حتى تستطيع أن تمارس مهامها الوظيفية وفقا لمبدأ سيادة القانون أو خضوع الدولة للقانون، حيث لا يمكن أن تكون هناك دولة أو مؤسسة سلطوية، لا تخضع في أعمالها أو في تسيير أعمال وظائفها لمبادئ القانون وسيادته، وتطالب أن تطبقه على مواطنيها، أو أن تخضعهم لأحكامه، فكيف ذلك في حال كونها قد فقدت أهم مواصفات المشروعية في تصرفاتها. كما أن الديموقراطية هي النسق الذي ارتضاه غالبية المجتمع الدولي؛ ليعبر عن أهم مواصفات الحكم السياسي الرشيد، وارتضته معظم أو غالبية النظم السياسية، وهو الذي يؤكد على أن يحكم الشعب نفسه بنفسه لنفسه، كمبدأ عام، وهذا المنطق هو ما يدعو، لأن تكون هناك علاقة قوية ووطيدة ما بين الحكم الديموقراطي وسيادة القانون، حيث لا تعيش الديموقراطية الصحيحة ولا تنمو، إلا بسيادة قانون عادل، يطول جميع المنتمين إلى البلد الديموقراطي، يحدد لكل مواطن مسؤول وغير مسؤول، سلم الحقوق والواجبات، ويمنع جميع المخالفات على وفق مبادئ واحدة تسري على الجميع، كما أنه يحدد واجبات السلطات الحاكمة وحدودها، ويبين مدى احترامها لنفاذ حقوق المواطنين.
كما أنه في مجمل القول، فإن الدولة تحكمها سلطات ثلاثة، السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، وتلك السلطات هي التي تعتبر مسئولة عن تنظيم حقوق الأفراد وتشريع وتنفيذ قوانين حماية حقوق الإنسان، كما أن تلك السلطات الثلاث هي التي تنظم علاقة الفرد بتلك الحقوق، وأيضًا علاقة الفرد تجاه الدولة ما له، وما عليه من واجبات وحقوق، وتقوم تلك السلطات الثلاث بتلك الأمور عن طريق سن القوانين اللازمة لتسيير الحياة، والحفاظ على حقوق المواطنين، دونما أي خلل في القواعد الدستورية الحاكمة لهذه السلطات الثلاث.
لكن هل من الممكن، أن نرى مثل هذه الحالة الرقابية التي عبر بها البرلمان الفرنسي عن أمثل صورة للديموقراطية، أم أننا سنظل نحيا في ظل خلاف تقني ومهني بين تلك السلطات، وأخصها العلاقة ما بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، بما يضمن ضمان الغلبة للحكومة على مسارات عمل السلطة التنفيذية، سواء كان ذلك من خلال نصوص مفتوحة ذات أبعاد تحكمية، تخفي ظلالاً لاستيعاب السلطة التنفيذية على مقدرات أعمال السلطة التشريعية، كما هو حاصل حاليا، بفتح باب التشريع للحكومة، دون أي اشتراطات، وهو ما أدى في النهاية على أن باتت السلطة النابية، هي مجرد قناة لتمرير ما توجه إليها السلطة التنفيذية من تشريعات، ذلك بخلاف تغييب السلطة الرقابية لمجلس النواب، على الرغم من تضمن القواعد القانونية لأساليب رقابية عديدة، إلا أنها لا يتم تفعيل إلا النزر اليسير منها، احتراما لتوجهات السلطة التنفيذية، وهو الأمر الذي يضمن عادة أن تكون الغلبة في النظام السياسي للسلطة التنفيذية، وهو الأمر الذي يغيب المعنى الحقيقي للديموقراطية.
أتمنى أن تكون هذه التجربة الفرنسية نموذجا، يحتذى به في أعمال توازن السلطات، وتفعيل الرقابة البرلمانية على أعمال السلطة التنفيذية، بما يوحي بنموذج أقرب للديموقراطية العامة.