بعد تقدم الجيش السوداني في سبتمبر الماضي، نحو مدينة بحري وعبوره كبري “كوبري” الحلفايا من مدينة أم درمان إثر معارك ضارية بين طرفي الحرب، و منذ بداية الصراع في 15 إبريل 2023، انتشرت قوات الدعم السريع في معظم أحياء المدينة، من حدود كبري المك نمر جنوبًا، إلى محلية شرق النيل شرقًا، والنيل الأبيض غربًا، وصولًا إلى حدود المدينة مع ولاية نهر النيل شمالًا. في المقابل، احتفظ الجيش السوداني بمواقعه في معسكر سلاح الإشارة في حي كوبر والمنطقة المحاذية لكبري كوبر، الذي يعد الفاصل بين بحري والخرطوم.
مع بداية سبتمبر 2024، تحولت خريطة السيطرة، حيث بدأت قوات الجيش في الانتشار في أحياء الحلفايا، والسامراب، والدروشاب، والكدرو، وهي الأحياء المحاذية لكبري الحلفايا. وفي 20 ديسمبر 2024، نشرت القوات المسلحة مقطع فيديو، يظهر سيطرتها على مربع 17 في حي شمبات.
قبل ذلك، في 8 ديسمبر، صدرت أوامر مفاجئة من قوات الدعم السريع بإخلاء آلاف الأسر في غضون 24 ساعة فقط، مما سبب حالة من الذعر والفوضى بين السكان. طالت أوامر الإخلاء أحياء شمبات، والشعبية، والمزاد، والصافية، وكافوري، بشكل مفاجئ، ودون تحضيرات مسبقة، ما وضع المدنيين في وضع غير مستقر. وكان العديد من هؤلاء عاجزين عن مغادرة المدينة منذ بداية الحرب؛ بسبب أوضاعهم الاقتصادية وحالات النهب المستمرة في بحري. ومنذ اندلاع الصراع، نزح نحو 3 ملايين من المدينة؛ بسبب الانتهاكات المتكررة من قبل قوات الدعم السريع، والقصف المستمر الذي دمر محطة المياه الرئيسية ومحطة الكهرباء، مما أدى إلى تهجير قسري ممنهج.
بعد صدور أوامر الإخلاء، فر العديد من السكان إلى مناطق آمنة تحت سيطرة الجيش، بينما لجأ آخرون إلى مناطق أخرى في الخارج أو في أحياء تحت سيطرة الجيش أو إلى دول الجوار. بينما بقي آخرون في مسيد الشيخ مختار في شمبات، حيث حاولوا الحصول على مساعدات غذائية، إلا أن قوات الدعم السريع قامت بملاحقتهم في 20 ديسمبر، وأصدرت أمرًا بإخلاء المسيد أيضًا، مما خلق مأزقًا حقيقيًا. لم يكن هناك أي خطة لاستقبال هؤلاء المدنيين أو تأمين مناطق آمنة لهم للخروج من المدينة. هذا حدث في وقت تشهد فيه منطقة جنوب بحري معركة مفصلية بين الجيش والدعم السريع، حيث يسعى الجيش للربط بين مقاره العسكرية عبر السيطرة على كبري المك نمر، الذي يؤدي إلى القصر الجمهوري والقيادة العامة في وسط الخرطوم، فضلاً عن مقر الجيش في سلاح الإشارة في بحري.
أوامر الإخلاء القسري
في صباح 8 ديسمبر 2024، فوجئ سكان أحياء شمبات، والشعبية، والمزاد، والصافية، وكافوري، بأوامر صارمة من قوات الدعم السريع بإخلاء المنطقة في غضون 24 ساعة فقط. هذا القرار، الذي جاء بشكل مفاجئ ودون أي تحضيرات مسبقة أو إجراءات لتأمين حياة السكان، تسبب في حالة من الفوضى والذعر، مما دفع العديد منهم للبحث عن مأوى مؤقت في المساجد أو الهروب إلى مناطق أخرى تحت سيطرة الجيش أو إلى دول الجوار.
مع غياب أي دعم إنساني، اضطرت بعض العائلات إلى اللجوء للمساجد مثل “جامع شيخ مختار” في منطقة شمبات الأراضي، بينما انتقل آخرون إلى مناطق شرق النيل وشندي، في حين بقيت أسر أخرى عالقة داخل الأحياء المهجورة، تواجه خطر الجوع وانعدام الأمان.
وفقًا لأحد الشهادات الميدانية، قال أحد السكان: “جاءت قوة من الجنجويد “من مكونات الدعم السريع”، أصدرت أمر إخلاء لجنوب بحري، من ضمنهم الشعبية جنوب وشمال، والمزاد. ثم جاءت قوة ثانية في الصباح طلبت من سكان شمبات الحلة المغادرة إلى شمبات الأراضي بعد أوامر الإخلاء، غادر البعض من بحري نهائيا، وآخرون بقوا في الحي، ولم يخرجوا منه، وأضاف أغلب الناس، التي جاءت من خارج شمبات، ذهبت إلى جامع شيخ مختار في شمبات الأراضي. يعاني المسيد من نقص في الدواء والمواد التموينية بشكل عام، وتوقفت التكايا عن العمل؛ بسبب إغلاق شارع الحاج يوسف، والذي يستطيع جلب غذاء من هناك (يقصد منطقة الحاج يوسف)، يتم نهبه في الطريق، وأضاف: حدث ذلك من قبل، وتم إخلاء منطقة صرص وموقف شندي، وبعدها تم النهب والسرقة، وبحسب وصفه “فكرة أن الجنجويد خايفين على المواطنين وطلبهم إخلاء الحي ليست منطقية، وقد تكرر ذلك كثيرا في بحري، وبعد إخلاء المنطقة، يتم سرقة ما تبقى من ممتلكات، أما المواطنون المتواجدون لا حول لهم ولا قوة، “الجوع كافر”.
وفي إفادة أخرى من أحد السكان في سوق الشعبية، قال: “جاء شخص وجمع الناس في سوق الشعبية، وقال أنا قائد منطقة بحري العسكرية ومعي دعامة (أفراد من الدعم السريع) وأمر بإخلاء السوق. وقال أمامكم 24 ساعة، ولا نريد أحدا في الشعبية. لما سألوه إلى أين نذهب؟ قال: جهة العزبة وكافوري، وبحسب وصفه، “أنهم يسوقوننا إلى الموت بأرجلنا” وأضاف: سكان حي الشعبية قاموا بتكوين لجنة من أعيان الحي، ويقابلها القائد، ويقولون له ليس لدينا مال للخروج من الحي، وذلك لطلب أموال لمساعدة مواطني الحي، ولم يفلح الأمر.
أوامر الإخلاء أدت إلى انهيار ما تبقى من حياة في المدينة، حيث أغلقت الأسواق المحلية، ونفدت المواد التموينية، وتوقفت التكايا عن تقديم المساعدات؛ بسبب إغلاق الطرق. كما أدى نقص الأدوية إلى تفاقم معاناة الأطفال وكبار السن، الذين كانوا في أشد الحاجة إلى الرعاية الطبية. ووفقًا لإفادة سعاد عبد الغني من سكان شمبات، التي ظلت متواجدة في منزلها منذ اندلاع الحرب؛ بسبب رفض والديها المسنين الخروج من بحري، قالت: “لم نكن مستعدين لهذا القرار المفاجئ. الأسر في حالة من الذعر، ولا توجد إمكانيات لإجلاء كبار السن والمرضى أو طرق آمنة لنقل الجرحى، لأنهم سيتعرضون لاتهامات، بأنهم عسكريون، مما يؤدي إلى اعتقالهم. بالنسبة للمرضى وكبار السن، فمن المستحيل نقلهم في مثل هذا الوضع. لا توجد سيارات لنقلهم، وبالتالي هي مخاطرة كبيرة، قد تؤدي إلى وفاتهم. الآن لا توجد أي مساعدات طبية أو غذائية. الجوع يطاردنا، والمستقبل مجهول”.
بعد الإخلاء، نفذت قوات الدعم السريع عمليات نهب واسعة النطاق، طالت المنازل والأسواق. الشهادات الميدانية أكدت سرقة الممتلكات الشخصية ونهب المواد الغذائية المتبقية في الأسواق التي شيدها المواطنون في الأحياء. ووفقًا لإفادة أحد شهود العيان، قال: “بمجرد خروجنا من منازلنا، أخبرنا الجيران، أن قوات الدعم دخلوا المنزل، وبدأوا بسرقة كل شيء. حتى المحلات التي أغلقت أبوابها، تم اقتحامها ونهب محتوياتها بالكامل. يبدو أنهم كانوا يخططون لهذا منذ البداية”. وأضاف أن قوات الدعم السريع استخدمت الأحياء المهجورة كقواعد عسكرية، وخاصة حي شمبات، حيث تم نصب راجمات الصواريخ والمدفعية الثقيلة في مواقع، مثل كلية الزراعة في شمبات، ومنازل محاذية للنيل وبعض المزارع، مما أدى إلى قصف مستمر للمدنيين في مناطق أم درمان.
ما تبقى من سكان الأحياء الجنوبية في بحري، يواجهون تهجيرًا قسريًا ونهبًا واستغلالًا عسكريًا، مما أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني المتدهور في بحري. يواجه المهجرون ظروفًا كارثية، تهدد حياتهم وكرامتهم، حيث يزداد نقص الغذاء والماء والدواء، بينما يعانون من انعدام الأمن في ظل استمرار العمليات العسكرية.