إذا كانت الدول تدير علاقتها مع بعضها على ضوء التطابق في توجهاتها العقائدية والسياسية، وتبني نفس النموذج السياسي والثقافي والاقتصادي، فإن هذا سيعني أن تعيش دول العالم في قطيعة وصراع مستمر.
صحيح أن الخلاف بين توجهات الدول والرغبة في الهيمنة الاقتصادية والسياسية كان سببا في الحروب العالمية الكبرى أو في مواجهات الحرب الباردة، أما في الألفية الثالثة، فإننا من الصعب أن نقول، إن الدول الملكية ستقطع علاقتها مع النظم الجمهورية، أو اليسار حين يصل إلى السلطة سيقطع علاقاته بالدول التي تحكمها أحزاب يمينية، أو أن تركيا العلمانية والعضو في حلف الناتو ستقطع علاقتها بإيران الإسلامية؛ لأنها دولة دينية وتنتمي لمحور الممانعة المعادي للناتو وحلفاء تركيا الغربيين.
لقد غاب البعد الأيديولوجي تقريبا في العلاقات بين الدول، وحضرت حسابات المصالح المشتركة والتفاهمات الاستراتيجية على اقتسام مناطق النفوذ، فسنجد مثلا أن إيران حين اختارت أن تدعم وتتحالف مع نظام ديكتاتوري في سوريا، اختارت تركيا، أن تدعم تنظيمات مسلحة لديها حاضنة شعبية كبيرة، رغم أن النموذج التركي قائم على الدولة الوطنية، ولا يقبل بوجود التنظيمات المسلحة الموازية كالحرس الثوري الإيراني أو الحشد الشعبي العراقي، إنما رأت أن مصلحتها في دعم هذه الفصائل التي وصلت بالفعل للسلطة، وتساعدها في بناء مؤسسات الدولة، ولم تنتظر قيامها، وأعلنت عن نيتها التوقيع على اتفاق ترسيم حدود مع سوريا الجديدة من أجل تنظيم عمليات إخراج الغاز بين البلدين، وهو توجه تركي عملي لافت في برجماتيته.
والحقيقة أن التحولات حولنا في الإقليم والعالم تقول، إن هناك ترتيبات جديدة، ومصر لا زالت غير مشاركة فيها، ولو بمنطق حماية أمنها القومي وتحقيق حد أدنى من الحضور الإقليمي داخل محيطها العربي.
والحقيقة أن غياب التفاعل المصري مع القادة الجدد في دمشق يحتاج إلى مراجعة خاصة، بعد أن شاهدنا زيارة الحليف الأول للنظام الجديد في سوريا، وهو وزير خارجية تركيا إلى دمشق، وبقي تقريبا ليوم كامل مع أحمد الشرع، واحتسوا الشاي في “جبل قيسون” واتضح حميمية العلاقة الشخصية بين الرجلين، كما ذهب وزير خارجية الأردن لدمشق، وذهب وزير خارجية قطر، كما راح أشكال وألوان من المسؤولين الغربيين، وعقدوا في دمشق اجتماعات مع أحمد الشرع، واتصل وزير خارجية الإمارات بنظيره السوري في الحكومة الانتقالية، وهذه الدول كلها إما حليفة لمصر أو لديها علاقات طيبة معها، ومع ذلك لا زلنا مترددين في التواصل وإيجاد صيغة للتعامل مع النظام الجديد.
صحيح أن حذر الدولة في مصر من قادة النظام الجديد مفهوم والتخوف من تاريخهم العقائدي المتطرف مشروع، لكن لا يمكن أن تكون هذه الجوانب بمفردها أو أساسا، هي المحددة للعلاقات مع بلد بقيمة وأهمية سوريا في العالم العربي. إن الطاقات الكامنة في الشعب السوري هائلة، والنظام السياسي الذي سينجح في إخراجها سيبني بلدا قادرا على التأثير الكبير في إقليمه، كما أن هناك علاقة حميمة وتقارب نفسي وتاريخي ومجتمعي كبير بين الشعبين المصري والسوري، وهو ما سيشكل عامل إضافي لضرورة نسج علاقة قوية بين البلدين.
ومن هنا، فإن هناك أبعاد أخرى أكثر أهمية، يمكن أن تبنى عليها العلاقات المصرية السورية تتجاوز التحفظات العقائدية على توجهات القادة الجدد، ولا تلغي رفض تاريخهم السابق، لأنهم أصبحوا الآن واقعا، يسيطر على بلد يواجه تحديات وأزمات كثيرة.
من المؤكد، أن الحسابات بين الدول في عالم ما بعد الحرب الباردة أصبحت تقوم أساسا على المصالح المشتركة وعلى صياغة تفاهمات سياسية وفق هذه المصالح، وليس على أساس نصوص عقائدية وأيديولوجية، تتطلب فقط عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وكل بلد حر في اختيار نموذجه السياسي.
إن علمانية تركيا لم تمنعها من التحالف مع فصيل إسلامي، يسيطر على سوريا، ولم تنتظر تشكيل حكومة جديدة ودستور جديد؛ لكي تعلن عن نيتها مساعدتها في تأسيس جيش وطني ومؤسسات إدارية وأجهزة شرطية وأمنية، وهي كلها جوانب مصر أولى أن تقوم بها قبل تركيا وأي دولة أخرى.
إذا كانت مصر حذرة من الحكم الجديد وتتوجس من قادته، فإنها يجب أن تتقدم بحذر نحو نسج علاقات قائمة على مصالح وشراكات مشتركة مع النظام الجديد، فمصر الرسمية تظل أقرب لسوريا من إيران التي أعلنت عودة العمل بسفاراتها في دمشق، ومطلوب أن تحل كل الرواسب والتخوفات الموجودة تجاه القادة الجدد في سوريا؛ من أجل نسج “تفاعل ما” وليس بالضرورة تحالف تجاه الوضع الجديد هناك، يبدأ باحترام فرحة الشعب السوري بسقوط واحد من أبشع النظم ديكتاتورية في العالم، ثم بعد ذلك تبدأ في التفاعل مع المسار الجديد، وهو مسار محفوف بالمخاطر، ويواجه تحديات كثيرة داخلية وخارجية، ولكنه إذا نجح فسيتحول إلى نظام ودولة، سيكون التعامل معها، مثلما تتعامل كل الدول مع بعضها البعض على قاعدة الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وإذا فشل فسيكون الحضور المصري من أجل حماية دماء الشعب السوري ودعم اختياراته وضمان عدم انزلاق الأوضاع إلى حرب أهلية جديدة.