تابعت كغيري من المتهمين بالشأن العام، وبشكل أخص سبل الحكم الديمقراطي، وإعلاء دور المؤسسات على دور حكومة الفرد، أو غلبة السلطة التنفيذية واستحواذها على مقدرات الدولة، ما حدث منذ أول ديسمبر الحالي في كوريا الجنوبية، منذ أن أعلن الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك- يول في الرابع من ديسمبر، فرض الأحكام العرفية، وهو الأمر الذي يتبعه حلاً للبرلمان الكوري، وهو الأمر الذي لاقى اعترضاً واسعا من قبل أعضاء البرلمان الكوري، بخلاف المعارضة الشعبية لهذا القرار.

وعلى الرغم من كون هذا القرار لم يتوصل إليه البرلمان بسهولة تصويتية، وإنما كانت هناك محاولات من الحزب الحاكم ” حزب الرئيس ” حاول إبطال الجلسة، وإبطال التصويت، إلا أنه قد تم إقناع  مجموعة من أعضاء البرلمان بالموقف الشعبين، وتم التصويت بعزل الرئيس، وهو ما أتبعه تنحي الرئيس الكوري عن منصبه.

وأعتقد أن هذا مثال حي لتقنين مفهوم الديمقراطية الفاعلة، وليست الديمقراطية الورقية، بخلاف كونه مثالا يحتذى لحماية مقدرات الشعوب من استغلال السلطات لها، وضبط كل محاولات الفساد، والسيطرة على الموقف الكلي للأمور، بما يضمن مصالح المواطنين، وليس مصالح أيا ممن يمثلون أي سلطة من السلطات.

وعلى نحو ما أكده الفقيه الإنجليزي العظيم جون ستيورات ميل، في مؤلفه الشهير “تأملات في الحكومة النيابية ” الصادر سنة 1861، على أن الإشراف والمراقبة هي الميزة الأساسية للهيئة النيابية، حيث قال إن المهمة الحقيقية لأي مجلس نيابي هي أن يراقب الحكومة، ويعمل على ضبطها وتوجيهها، وأن يسلط الضوء على أعمالها وتصرفاتها؛ ليطلع الجمهور عليها، وأن يضطرها إلى تقديم تفسير كامل عن أعمال وتصرفات أعضائها المشكوك فيها، ومبررات قيامهم بها، وينبغي على المجلس النيابي عند قيام أعضاء الحكومة باستغلال الثقة الممنوحة لهم، أو عند قيامهم عمداً بأداء الأعمال الموكلة إليهم، بطريقة تتعارض ومصالح الأمة، فله أن يقوم بلومهم أو توبيخهم أو عزلهم من مناصبهم وتعيين آخرين بدلاً منهم. هكذا سارت الأمور في كوريا، أو كما يقول العامة الجملة الشهيرة “زي ما بيقول الكتاب”.

وبحسب القواعد المعرفية، فقد اتفقت القواعد الدستورية على مستوى دول العالم، على أن تكون هناك رقابة من البرلمان أو المجالس التشريعية على اختلاف مسمياتها في كل دولة على أعمال الحكومات، وذلك بحسب كون السلطة التنفيذية المتمثلة في الحكومة، والتي من المفترض، أن تقوم بكافة أعمالها وفق صحيح القانون، وأن تبتغي الصالح العام في ذلك العمل، ولعدم شطط الحكومات بهذه السلطة الواسعة فقد كانت الرقابة البرلمانية على أعمال الحكومات، إذ تعد الرقابة البرلمانية حجر الزاوية في البرلمانات الديمقراطية، إذ تشكل مؤشراً على الحكم الجيد، وهي تهدف إلى مساءلة السلطة التنفيذية حول أعمالها، فإلى ضمان تنفيذ السياسات بطريقة فعّالة. فالرقابة البرلمانية الدقيقة للسلطة التنفيذية مؤشر على سلامة الحكم. وإلى جانب وظيفته التشريعية، يتمكّن البرلمان من تحقيق توازن القوى وتعزيز دوره كمدافع عن المصلحة العامة. ففي الأنظمة الديمقراطية القديمة والحديثة، يتمتع البرلمان بالسلطة التي تخوّله الإشراف على الحكومة من خلال عدد من الأدوات والآليات، غالباً ما يتم تحديدها من خلال الدستور ونصوص تنظيمية كالأنظمة الداخلية للبرلمان. وتقوم الطريقة التي يمكن للبرلمان من خلالها استخدام صلاحياته الرقابية على وجود إطار قانوني، يعزز موقفه كمؤسسة رقابية، ويضمن له سلطته واستقلاليته في إطار النظام السياسي، ذلك حيث تمتلك البرلمانات في معظم النظم السياسية على مستوى العالم مجموعة من الأدوات الرقابية التي تمنحها لها الدساتير، والتي تمكّنها من إتمام عملية المراقبة. وتتضمن أكثر هذه الأدوات شيوعاً:- الأسئلة الموجهة إلى الوزراء (مكتوبة أو شفهية)، والاستجواب، والتصويت على حجب الثقة، فيما تتضمن الآليات الأخرى منهجيات مرتبطة بمراقبة الموازنة والمحاكمة وإمكانية البرلمان إنشاء لجان مخصصة، ولجان التحقيقات، أو مكتب أمين المظالم. وفيما يلي تلخيص للعديد من هذه الأدوات مثل، السؤال، الاستجواب، طلب الإحاطة، التحقيق البرلماني، بخلاف المسئولية السياسية.

أما إذا ما عدنا أدراجنا عند حدود مجلس النواب المصري، بحثا عن الدور المطلوب من البرلمان، حيال ما يحل بهذا الشعب من أزمات، فإننا لم نجد دوراً متناسباً دوما مع ما يحل بنا من أزمات، أو أن يكون ما يقدمه أعضاء مجلس النواب، لا يتناسب مع حجم ما يحل بهذا الوطن، وهو الأمر الذي يدفعنا دفعاً إلى البحث حول حقيقة العلاقة، ما بين مجلس النواب وبين السلطة التنفيذية متمثلة في الحكومة، وذلك من الناحية الواقعية الحياتية، وليس من ناحية النصوص الورقية، التي تقتضي بأي حال من الأحوال، أن تكون هناك رقابة من مجلس النواب، لكل ما تقوم به الحكومة من أفعال، وبشكل أخص في أوقات الأزمات التي تحل بالشعب المصري، أم أن الأمر لا يعدو سوى تفعيل لنصوص الدستور بتشكيل سلطات اسمية، حيث أن الملاحظ على هذه العلاقة ما بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في مصر، هو كونهما يسيران سويا، وكأنهما سلطة واحدة، أو بالأحرى تحركهما يد واحدة قاصدة المزج بينهما، وهذا ما تؤكده سيطرة حزب محسوب ميله على الحكومة، وهو الأمر الذي يخل بالمعادلة النظرية أو النصية التي تقتضي الرقابة والمحاسبة بأشكالها المختلفة على النحو السالف بيانه، وخصوصا في أوقات تكون فيها تلك السبل الرقابية مجرد وسيلة أمان لبقاء الدولة ذاتها، في ظل تردي ملحوظ لخدمات حكومية أو انهيار متعدد في وظائف بعينها، وذلك ما يعود بالسلب على حياة المصريين، وهو ما ينعكس على علاقتهم بالحكومة أو السلطة التنفيذية من ناحية، ومن ناحية أكثر إلحاحاً على علاقة المواطنين بنواب، من المفترض أن يكونوا هم الممثلين الشرعيين لهم ، وهو ما يقتضي بالتبعة، أن يكونوا معبرين عن احتياجاتهم.

فهل لنا كشعب ضارب في جذور التاريخ، أن نأمل أن يكون لدينا مؤسسات حاكمة، يكون لها الدور الفاعل الحقيقي في تعميد مفهوم الديمقراطية كنمط وسلوك حكم، وألا يكون ذلك الدور المرسوم لها مجرد كلمات في النصوص الدستورية، ويكون تفاعلها مع القضايا الحقيقية التي تمس مصير الشعب تقف عند حد ما يتراءى للسلطة التنفيذية، بحسبها هي المسيرة للأمور، وأن تكون السلطة النيابية تابعة لها، وهو المفهوم المعكوس للمعنى الدستوري، وهل لنا أن نتعلم من التجارب البشرية في حماية الدول واحترام الدستور، وأن نسير في ركب هذه التجارب حماية للمصالح العليا للبلاد، وجعلها هي الهدف الأسمى للمؤسسات.