في 19 ديسمبر 2024، شهدت منطقة الجزيرة أبا بولاية النيل الأبيض في السودان كارثة إنسانية غير مسبوقة؛ نتيجة لارتفاع منسوب النيل الأبيض بشكل غير طبيعي. هذا الارتفاع الكبير في منسوب المياه، كان نتيجة لإغلاق قوات الدعم السريع لبوابات خزان جبل أولياء، مما تسبب في حدوث فيضانات مدمرة، اجتاحت العديد من أحياء المنطقة بشكل مفاجئ. أسفرت هذه الفيضانات عن انهيار العديد من المنازل والمرافق السكنية المحاذية للنهر، ما أسفر عن تدمير نحو 2000 منزل في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، أودت الكارثة بحياة ثلاثة أشخاص؛ نتيجة للفيضانات التي طالت المنطقة بشكل غير مسبوق.
تأثرت أيضًا العديد من المدن المجاورة مثل، الدويم وشبشة، حيث غرقت أجزاء واسعة من هذه المدن تحت المياه. تُقدر الخسائر في هذه المناطق، بما لا يقل عن 127 منزلًا، منها 37 منزلًا انهارت بالكامل في غضون ثلاثة أيام فقط من حدوث الفيضانات. وفي الوقت ذاته، ارتفعت حالات الإصابة بالكوليرا بشكل مقلق في الجزيرة أبا، حيث زادت الحالات من 13 حالة فقط إلى 85 حالة، مما زاد من تعقيد الوضع الصحي في المنطقة.
مستشفى الجزيرة أبا، الذي يحتوي على 11 سريرًا فقط، أصبح غير قادر على استيعاب العدد المتزايد من المرضى المصابين بالكوليرا وأمراض أخرى. الأمر الذي يسهم في سرعة انتشار الوباء بين الأصحاء، ويجعل الوضع الصحي أكثر صعوبة. وقد تفاقم هذا الوضع بشكل أكبر؛ نظرًا للظروف الصعبة التي يعيشها العديد من المواطنين الذين تعرضت منازلهم للانهيار التام. هؤلاء المواطنون يقيمون في العراء داخل منطقة الجزيرة أبا، حيث لا توجد أماكن آمنة للإيواء، وهم في انتظار عمليات الإجلاء والمساعدات الإنسانية العاجلة.
تأثيرات الفيضانات
تجاوزت الآثار السلبية للفيضانات تأثيرات المباني والمنشآت فقط، إذ امتدت لتشمل المزارع والمحاصيل الزراعية التي كانت تمثل مصدر الدخل الرئيسي للأسر في هذه المناطق. الحقول التي كانت تضم محاصيل القمح والذرة والعديد من الزراعات الموسمية، قد غمرتها المياه، مما جعلها غير صالحة للاستخدام الزراعي. وبالتالي فقدت العديد من الأسر مصدر رزقها الأساسي، مما يزيد من معاناتهم في ظل الوضع الكارثي الذي يعيشونه. هذا التدمير للمحاصيل الزراعية، يزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي في المنطقة، حيث كان المزارعون يعتمدون على هذه المحاصيل لتأمين قوت يومهم.
الأسباب الرئيسية للكارثة
يُعد السبب الرئيس وراء هذه الكارثة، هو عدم فتح بوابات خزان جبل أولياء في الموعد المحدد. ومنذ اندلاع الحرب في السودان، توقفت أعمال الصيانة والتسيير في الخزان؛ نتيجة لغياب الطواقم الفنية المتخصصة في إدارة السدود والخزانات. ومنذ نوفمبر 2023 م، أصبح خزان جبل أولياء تحت سيطرة قوات الدعم السريع، مما أدى إلى توقف العمل وفقًا للجدول الموسمي المقرر للملء والتفريغ، وهو ما أسهم بشكل مباشر في ارتفاع منسوب المياه بشكل غير مسبوق.
وقال المهندس أحمد التني، الذي قام بشرح تفاصيل الوضع الفني، إن قوات الدعم السريع حولت خزان جبل أولياء إلى منشأة عسكرية، حيث أصبح المنفذ الوحيد بين مناطق شرق وغرب النيل الأبيض. وأضاف أن المليشيا طردت جميع العاملين في صيانة وتشغيل السد؛ حفاظًا على تحركاتها عبر معبر السد، وهو ما أدى إلى غياب الاستجابة الفنية للمشاكل الطارئة التي ظهرت؛ نتيجة لارتفاع منسوب المياه.
كما أشار المهندس أحمد التني، إلى أن القصف الذي تعرض له الجيش لا علاقة له من الناحية الفنية بعملية تشغيل السد، بل يرتبط بالجانب الأمني. القصف كان يهدف إلى تأمين معبر السد، الذي أصبح بمثابة المعبر الوحيد بين مناطق شرق وغرب النيل الأبيض في ظل السيطرة العسكرية المستمرة من قوات الدعم السريع على المنطقة.
من جانب آخر، أوضح المهندس حيدر أحمد، أن منطقة جنوب خزان جبل أولياء هي بحيرة سد تمتد خلف الخزان حتى حدود الجنوب. وبالنظر إلى أن انحدار النيل الأبيض في هذه المنطقة ضئيل جدًا، حيث يتراوح بين واحد إلى اثنين سنتيمتر لكل كيلومتر طولي، فإن ارتفاع المياه خلف جسم الخزان بحوالي 6 أمتار، يعني أن تأثير انتشار المياه يصل إلى حدود الجنوب. هذه الطبوغرافيا “التضاريس” تجعل من خزان جبل أولياء محدود الفائدة في التوليد الكهربائي، حيث يؤدي تخزين المياه خلف السد إلى زيادة مساحة الأراضي المغطاة حتى مع أقل ارتفاع في منسوب المياه. وبالتالي، تتجاوز المسافة بين الضفتين الشرقية والغربية للنيل الأبيض الكيلو مترين والنصف في معظم المناطق.
إدارة الخزان في ظل الأزمة
في ظل هذه الكارثة، أعلن مدير الإدارة المدنية بجبل أولياء، حامد ماهل، التابع لقوات الدعم السريع، أنهم بدأوا في فتح بوابات الخزان تدريجيًا لتفريغ المياه التي تسببت في فيضانات النيل الأبيض. وأكد أنه سيتم فتح البوابات بمقياس 20 سنتيمترا لكل بوابة، ومن المتوقع أن تكتمل عملية فتح البوابات بالكامل في غضون يومين. وأوضح أنه في السابق كان يتم غلق الخزان وفتحه بشكل دوري كل موسم، لكن هذا الأمر توقف بعد مقتل المهندس المسؤول مصطفى، في قصف جوي لطيران الجيش.
الدعم السريع والجهل المُريع
يعد تحويل خزان جبل أولياء إلى منشأة عسكرية من قبل قوات الدعم السريع، قرارًا غير مسئول ويعكس جهلا مريعا وفظيعا وفشلًا إداريًا واضحًا في إدارة منشآت حيوية، تعتمد على صيانة متواصلة وتشغيل فني دقيق. خزان جبل أولياء، يُعتبر من البنى التحتية الحيوية التي تعتمد على مهندسين وفنيين متخصصين لضمان تشغيله السليم، بما في ذلك مراقبة منسوب المياه وتنظيم تدفقها بشكل يضمن عدم حدوث فيضانات. ولكن بعد أن حولت قوات الدعم السريع الخزان إلى منشأة عسكرية، تم طرد الفرق الفنية المتخصصة التي كانت مسئولة عن تشغيل السد، مما أدى إلى عدم القيام بالصيانة اللازمة، وغياب أي استجابة فنية للمشاكل الطارئة.
عندما توقفت أعمال التشغيل والصيانة؛ بسبب تصرفات قوات الدعم السريع، أصبح الخزان غير قادر على التعامل بشكل صحيح مع تغيرات المنسوب، مما أدى إلى تراكم المياه بشكل غير طبيعي خلف السد. وبالنظر إلى الطبوغرافيا “التضاريس” الخاصة لمنطقة جنوب الخزان، حيث انحدار النيل الأبيض ضئيل جدًا، فإن أي ارتفاع في المنسوب، يتسبب في فيضانات واسعة النطاق. كان من الممكن تفادي هذه الكارثة، إذا تم تشغيل الخزان بشكل سليم وفقًا للجدول الزمني المطلوب، لكن تحويله إلى ثكنة عسكرية كان سببًا رئيسيًا في حدوث هذه الكارثة.