تُعرِف الفلسفة العدالة، بأنها إحدى الفضائل الأربع جنباً إلى جنب مع الحكمة والشجاعة والعفة، بينما يفسرها القاموس، بأنها “حكم متجرد دون تحيز”، سعيا وراء تأصيل لملمح العدالة في المشهد المصري الراهن، كتب الباحث هشام جعفر، عددا من المقالات في “مصر360″، راصدا ومحللاً، ملامح ما اعتبره استباحة للعدالة.

يؤصل جعفر بداية لمرحلة استباحة العدالة في مصر، والتي يرى أنها بدأت في 2013، انطلاقا من مشروع بحثي معمق للمفوضية المصرية للحقوق والحريات عن العدالة الجنائية في مصر، وصولا إلى أن: “مُعظم التعديلات التشريعية الصادرة– سواء من مجلس الشعب أو من رئيس الجمهورية بموجب سُلطة التشريع الممنوحة إليه بشكل استثنائي- في الحقبة الأخيرة، قد أهدرت ضمانات المُحاكمة العادلة، وأخلت بالضوابط التي يجب أن تكون مُحققة في المُحاكمات الجنائية”.

اقرأ: استباحة العدالة الجنائية في مصر بعد ٢٠١٣

في مقاربته تلك، يطرح جعفر مصطلح “الاستباحة “الذي صكه بنفسه خلال فترة سجنه بسجن العقرب سيئ السمعة التي امتدت من أكتوبر ٢٠١٥، إلى إبريل ٢٠١٩.

ويرى أن مفهوم الاستباحة يتكامل معه عدد من المفاهيم الضرورية لتمام فعل الاستباحة من قبيل: نزع الإنسانية، وحرمان المسجون/ المتهم من المشروعية القانونية التي عادة ما تنتهي بسحب المواطنة الكاملة عنه- كما جرى في منع بعض من الدياسبورا المصرية “من اضطروا للخروج من مصر” من تجديد جوازات سفرهم، وتخيير مزدوجي الجنسية من المصريين بين السجن، وبين التنازل عن مصريتهم، بالإضافة إلى ما تضمنه قانون الإرهاب من حرمان من كثير من الحقوق والحريات.

ومن الرصد التأريخي والتأصيل المفاهيمي، ينتقل هشام جعفر إلى فهم المكونات التي رسمت مسارات السلطة الجديدة، تلك المكونات التي اجتمعت ــ في رأيه ــ في لحظة انبعاث نظام يوليو ٢٠١٣.

إقرأ: محددات فهم النظام العقابي للجمهورية الجديدة

المكونات الأربعة التي فصلها يمكن إجمالها في: انتفاضة يناير التي كان جوهرها استعادة الدولة لعموم المصريين، وبيان ٣ يوليو ٢٠١٣ الذي رسم مسارا جديدا للشرعية الدستورية، والتفويض؛ ويقصد به طلب القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع في يوليو ٢٠١٣ (الذي سيصبح رئيسا للجمهورية بعدها بعام) بتفويض الشعب له بمحاربة الإرهاب، وأخيرا المكون الرابع، وهو الدعم الإقليمي من بعض دول الخليج أساساً، والتي تركزت مساندتهم في مراحلها الأولى على المعونات المالية، التي تحولت بالتدريج إلى استثمارات واستحواذات، تتطلب بيئة قانونية مواتية.

عقب شرح تلك المكونات يرصد ــ باستفاضة نسبيةــ مقاصد وغايات النظام العقابي للجمهورية الجديدة، والمتمثلة في إنتاج أشكال من السيطرة والتحكم والإخضاع، ليس في مواجهة الفاعلين والناشطين السياسيين والاجتماعيين ورجال الأعمال فحسب، بل في مواجهة المجتمع ككل، وتحقيق قدر من التماسك بين مكونات تحالف الحكم وترضيته، من خلال المكانة المركزية التي تحتلها ما يطلق عليه “الأجهزة السيادية”، ثم تحول المجتمع أو المصريين إلى تهديد؛ ليس من زاوية الاحتجاج ضد الدولة، ولكن أيضا من تهديدهم لمكونات الجمهورية الجديدة الثلاث: التحديث، والاندماج الإقليمي، وطبعة خاصة للنمو الاقتصادي- جوهرها نيو ليبرالي.

وكذا خلق التجانس بين المكونات الدينية والأخلاقية/ القيمية، بل وحتى الشكلية والسلوكية التي يعج بها المجتمع (الوزن الزائد والتدخين كأمثلة)، وتطوير تفسير رسمي للإسلام، وتفسير رسمي للتقاليد الاجتماعية والأخلاق، ومواصفات قياسية، لما ينبغي أن يكون عليه شكل المصريين والمصريات- تشرف الأكاديمية العسكرية على متابعته بغية تحقيق الهيمنة الثقافية والاجتماعية، وليس السياسية أو الاقتصادية فقط.

وينتقل هشام جعفر لمحاولة رصد ما أطلق عليها استراتيجيات الاستباحة.

اقرأ : العدالة الجنائية في مصر بعد ٢٠١٣: استراتيجيات الاستباحة الست (١)

وهنا يبدأ قراءته بـ”المقاصد الأربعة” التي رسمت مسار العدالة الجنائية في مصر بعد ٢٠١٣: وهي التحكم والسيطرة والإخضاع بغية استرداد الدولة من انتفاضة يناير ٢٠١١، ومواجهة الاضطرابات التي خلقتها، ومجابهة الإخوان كأكبر قوة سياسية منظمة، وضبط حركة المجتمع السائلة في الاقتصاد والعمران والدين والقيم، وتنظيمها لتكون معدة للسياسات الاقتصادية النيو ليبرالية، وإعداد الدولة والمجتمع للاندماج في المشاريع الإقليمية والدولية ذات الطبعة الرأسمالية.

وفي هذه المرحلة من مقاربته، يركز الباحث على “كيفيات الاستباحة التي تتبدى في التشريعات والسياسات، وكذا الإجراءات والقرارات، والتقاليد والممارسات”، ربما لإيمانه بأن هذه الكيفيات ستستمر معنا عقودا، وستحتاج لجهود ممتدة من أجل تفكيكها.

ويفصل في مقاله ثلاث من هذه الكيفيات والتي تتضمن: انتفاء الحدود الفاصلة بين دولة الامتياز والدولة المعيارية، ثم حشد قوة الدولة وراء قائد، تمتع بشعبية كبيرة لمواجهة التهديدات التي أعقبت ٢٠١٣، والتي تم توصيفها مبكرا وقبل تصاعد داعش بالحرب على الإرهاب، وأضيف إليها عدم الانزلاق لحالة الفوضى التي طالت بعض دول المنطقة.

وثالثا: حشد موارد الدولة والمجتمع والنظام السياسي معا؛ للحفاظ على الدولة، وتحقيق نمو اقتصادي يؤثر على حياة المصريين، وهو ما تطلب بناء نظام سياسي متحرر من القيود التي يمكن أن يفرضها المجال السياسي، أو حتى القيود الآتية من الصراع الاجتماعي.

نقلة أخرى في مسار الرصد والتحليل تركز على دور الحرب على الإرهاب في التطبيع مع حالة الاستثناء.

اقرأ: الحرب على الإرهاب واستباحة العدالة الجنائية في مصر

في الحرب على الإرهاب، كما في الحروب التي تعلنها الدولة المعاصرة، مثل الحرب على الهجرة غير المشروعة، والحرب على الجريمة المنظمة، والحرب على الوباء.. تستخدم الدولة المعاصرة- في حروبها تلك- آليات متشابهة لتحقيق النصر على عدو غير واضح المعالم والحدود، “يقول جعفر”: أما الآليات التي تستخدمها الدولة تجاه المختلف عرقيا أو ثقافيا أو دينيا، أو الإرهابي، أو المهاجر غير الشرعي، أو المجرم قانونا، فتتضمن نزع الإنسانية عن طريق تحويلهم إلى صور نمطية، أو أرقام لا معنى لها.

وكذا التجريم من خلال استخدام التقنيات التشريعية والإجراءات البيروقراطية لتصنيع الجماعات المجرمة، وتكون الدعايات والأيديولوجيات والأفكار لإضفاء الشرعية المعنوية على التجريم القانوني.

كما تتضمن الآليات تطور التمييز ليكون ثقافيا؛ فأوضاع الفقراء والفئات الضعيفة؛ هو نتاج لطباعهم أو ثقافتهم، وليس محصلة لتخلي الدولة النيو ليبرالية عن سياسات الدعم الاقتصادي والاجتماعي، والإرهابيين صاروا كذلك، لا بسبب سياقات يمكن معالجتها، ولكن لطبيعة تدينهم وأفكارهم التي يعتنقونها فقط.

يعود جعفر ليستكمل الاستراتيجيات الست التي خطتها الجمهورية الجديدة لتمام فعل الاستباحة في مقاربته.

اقرأ: الدولة المفترسة ومنظومة العدالة في مصر

يناقش الكاتب هنا علاقة العدالة بثلاثة مكونات تتأثر بهم: طبيعة الاقتصاد السياسي للجمهورية الجديدة، ووضع الموظف العام الذي يناط به تطبيقها، وأخيرا قسوة العقوبات.

ويطرح استراتيجيات أخرى للاستباحة، تتمثل في إطلاق سلطة التقدير وتدشين الدولة المفترسة، وكذا تهديد المركز القانوني المستقر للموظف العام وحمايته، إذا تورط في الاستباحة، حيث تقوم فكرة الموظف العام على وجوب استقرار مركزه القانوني، وإلا أدى لانهيار البناء المؤسسي وتآكله.

أما الاستراتيجية السادسة، فتتمثل حسب الكاتب في قسوة العقوبات كأحد أشكال عنف الدولة وقمعها، حيث لا ينبغي فهم او تفسير عنف الدولة من منظور “سياق محدد قصير المدى، ولا كعمل سياسي مستقل”. بدلاً من ذلك، يجب أن يُفهم، على أنه سلوك استطرادي ومؤسسي مضمن في سياق تاريخي أكبر.