كان السقوط المدوي لمخلفات دولة الهوية الوطنية (عسكرية الأصل) في سوريا، والهروب الفاضح لرئيسها بشار الأسد، الذي لم يكن هو نفسه، إلا واحدا من أحقر وأضعف أعقاب تلك السلالات العسكرية في هذا الطراز من الدول.. بمثابة حكم جديد للتاريخ بانتهاء صلاحية هذه النظم السياسية، ومشتقاتها في عموم المنطقة العربية.
وكنا قد ذكرنا في مقالنا الافتتاحي لهذه السلسلة من المراجعات والبحث عن بدائل لصنع مستقبل أفضل لشعوبنا العربية، أنه قد آن أوان إغلاق صفحة الجمهوريات العسكرية ذات الأيديولوجيات القومية، التي أصبحت بإخفاقاتها وتحولاتها السلبية عبئا على الحاضر، وعلى المستقبل، وذلك حتى يتسنى لنا صياغة عقد اجتماعي جديد، يقوم على حقوق المواطنة المتساوية وسائر الحريات السياسية المتعارف عليها في الدول الديمقراطية، والمنصوص عليها في دساتير تلك الدول، وفي الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، وفي مقدمتها حق اختيار الحكومات ومساءلتها، وكذلك الحقوق الاقتصادية في العمل والفرص المتكافئة وفي مستوى المعيشة اللائق، كما تحدده المعايير الدولية.
كما نعلم، فإن تلك النظم الساقطة أو الآيلة للسقوط، كانت قد انتشرت في الدول العربية في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ بذريعة إنجاز أو استكمال عملية التحرر الوطني، التي فشلت فيها النخب المدنية (كما روج الضباط) ومن ثم، الحفاظ على الاستقلال في مواجهة مؤامرات الإمبريالية التي لا تنقطع، وأخيرا بناء دولة الوحدة العربية، أو على الأقل بناء نظام إقليمي عربي للتعاون والأمن والتصدي للمشروع الصهيوني، يضاف إلى هذه القائمة من المسوغات الوطنية والقومية مجموعة المبررات والاحتياجات الاجتماعية والتنموية، ملخصها عدالة توزيع الثروات والدخول، وزيادة انتاج السلع والخدمات، وصولا إلى دولة الرفاه أو مجتمع الكفاية.
هاتان المجموعتان من الأهداف (أو الذرائع) كانتا هما أساس العقد الاجتماعي الضمني بين تلك النظم وبين شعوبها، وقد عُرّف هذا العقد في الأدبيات السياسية لتلك الحقبة في بداياتها الواعدة بديمقراطية التفويض، أو كما صاغها ميثاق العمل الوطني لنظام يوليو المصري في بلاغة أخاذة، أسست لخدعة ديمقراطية التفويض، وذلك حين قال، إن “الشعب بعد نكسة ثورة ١٩١٩، راح يلقن طلائعه الثورية (أي الضباط الأحرار) أسرار آماله الكبرى”، لكننا سنرى توا، أن ديمقراطية التفويض المزعومة تقوضت هي نفسها، وذلك حين أخفقت هذه الطلائع الثورية إخفاقا شاملا في إنجاز المهام التاريخية التي انتدبت نفسها لتحقيقها، في داخل أوطانها القطرية، أو على المستوى القومي، فإنها إذ ذاك تكون قد فسخت عقد التفويض بين شعوبها وبينها، ومن ثم، فإنها تكون قد فقدت مصدر شرعيتها، وبالتالي تحولت إلى “ديمقراطية إذعان” للأمر الواقع، إذا جاز التعبير.
باختصار لم يعد مصدر السلطات القائمة في جمهوريات العسكر الوطنية هو التفويض الشعبي الضمني المسبق، ولا هو الرضا العام اللاحق، ولكن هذا المصدر أصبح هو الإكراه المجرد، وإن تذرع بالوطنية والصمود في مواجهة المؤامرات الأجنبية.
كان التحول في طبيعة تلك النظم من ديمقراطية التفويض إلى “ديمقراطية الإذعان” إيذانا بتحولات سلبية متوالية في بنيتها وسياساتها؛ وصولا إلى تحولها إلى أوليجاركيات، أي طغم أو أقليات حاكمة (فئوية مثل جنرالات الجزائر)، أو طائفية قبلية (مثل نظام صدام حسين في العراق ونظام حافظ الأسد في سوريا ونظام علي صالح في اليمن)، ثم إلى عصابات حاكمة أو عائلات حاكمة، كما تحول أغلبها، خاصة نظام بشار الأسد، ومعمر القذافي في ليبيا.
وقد كان بشار الأسد ذاته تجسيدا متكاملا لكل سوءات تلك النظم، فقد كان أنجح وراثة جمهورية عائلية عسكرية وطائفية عربية، ولكن كانت قد تشابهت مع حالته العائلية والطائفية والعسكرية، حالات أبناء صدام حسين في العراق، وابن علي عبد الله صالح في اليمن، وبالطبع تشابهت حالة الطموح لوراثة الرئاسة من الأب العسكري عند جمال مبارك في مصر مع حالة بشار، وكذلك محاولة سيف الإسلام القذافي في ليبيا.
وبما أن كل تلك النظم دأبت على إنكار الإخفاق والتهرب من استحقاقات الإصلاح الحقيقي، كانت النتيجة المنطقية هي المزيد من إقصاء المعارضين السلميين، والمزيد من احتكار السلطة وتركيزها، ومن ثم، المزيد من الفساد وتركز الثروات، وكان تلك الظواهر غالبا تتقاطع مع خطوط انقسام اجتماعية (فئوية أو طبقية)، أو طائفية أو جهوية أو قومية، فيكون مؤدّى ذلك كله في نهاية المطاف هو تدهور مبادئ المساواة أمام القانون، وفي سائر حقوق المواطنة، وشيوع الفساد، ورأسمالية المحاسيب، ومن ثم، انهيار أو توقف التنمية، وزيادة البطالة، وانخفاض مستوى المعيشة.
تستحق خطوط الانقسام الاجتماعية المذكورة في الفقرة السابقة شيئا من التوضيح، ذلك أن أوضح حالات التمييز على أساس فئوي هي التمييز بين العسكريين وبين المدنيين، والتمييز بين نخب المساندة الحزبية للحكم القائم وبين سائر المواطنين، أما التمييز الطائفي فأساسه اختلاف الأديان أو المذاهب الدينية داخل الدين الواحد، ويظل التمييز على أسس قومية مرتبطا في الغالب بالتمييز على أسس جهوية، كما هي حالة الأكراد في سوريا والعراق، وحالة الأمازيغ في الجزائر.
إزاء هذه الانقسامات لا تقتصر جناية الجمهوريات العسكرية (حاملة وحامية الهوية الوطنية في زعمها) على عدم تخفيف حدة تلك الانقسامات، وتجاوزها بالمساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص، وبالتعددية السياسية الكفيلة بتمثيل الجميع ومشاركتهم في الحياة السياسية، ولكن الإقصاء واحتكار السلطة ورفض المسئولية والمساءلة.. كل ذلك زاد من حدة تلك الانقسامات، وحولها إلى صراعات متجذرة بين أغلبيات وأقليات، وبين مذاهب وأخرى، وكذلك بين طوائف وأخرى، وصولا إلى الحروب الأهلية.
وفي كل الأحوال، كان السخط العام يتزايد، فيتزايد القمع، ومن ثم، يتزايد اغتراب المواطن، وكانت هذه هي الحلقة الجهنمية التي حوصرنا كمواطنين عرب داخلها، حتى انفجرت ثورات الربيع العربي، التي كانت في جوهرها حكما قاطعا من التاريخ بانتهاء عصر الجمهوريات العسكرية (الوطنية)، وتطلعا لإقامة دولة المواطنة والحقوق والحريات.
وعلى الرغم من الشعور السائد بقوة بفشل ثورات الربيع العربي في تحقيق أهدافه، وكذل على الرغم من المحاولات التي لا تتوانى لتشويه وإدانة الربيع العربي، والإيحاء بأنه كله من أوله لآخره، لم يكن إلا مؤامرة عالمية، فإن سقوط بشار الأسد في سوريا، جاء لينذر، بأن أوان بناء دولة المواطنة والحريات على أنقاض دولة الهوية والجنرالات قد آن، وأن هذا استحقاق تاريخي لا مهرب منه.
أعلم أنه من حق القارئ أن يتساءل: ألا تدري أن الذين أسقطوا بشار الأسد وخلفوه في حكم سوريا هم من دعاة سياسات الهوية الدينية والمذهبية؟
وردي على هذا السؤال المحق، هو أنهم إذا أقاموا نظامهم السياسي الجديد على غير أساس المواطنة والتعددية والحريات، فقد حكموا على نظامهم بالفشل مقدما، وربما على سوريا كلها بالزوال الذي ستكون بدايته التقسيم، وضم بعض المناطق من جانب الدول المجاورة، خاصة تركيا وإسرائيل.
ملاحظة منهجية
في ختام هذا المقال، من المهم أن نتفق على أن وجود رؤساء قادمين من خلفيات مدنية أو حزبية على رأس تلك النظم أحيانا، مثلما كان بشار الأسد في سوريا، لا ينفي عن النظام جوهره العسكري، وذلك بالمعني الذي ذكرناه آنفا، أي معنى الوصول إلى الحكم والبقاء فيه بإذن المحكومين، استنادا إلى القوة المجردة، وهذا يصدق على صدام حسين في العراق، وكذلك عبد العزيز بوتفليقة في الجزائر، وربما أيضا الرئيس الجزائري الحالي عبد المجيد تبون، إذ تظل الجيوش والأجهزة الأمنية هي سند النظام، ومصدر الشرعية، وأداة التغيير وحسم الصراع على السلطة.
ومن المفارقات، أن النظم التقليدية في منطقتنا العربية استعارت من الجمهوريات العسكرية تقليد أو تطبيق استخدام الجيوش في الصراع السياسي الداخلي، سواء في مواجهة شعوبها، أوفي حالات الصراع داخل أجهزة ومكونات السلطة ذاتها، وهو ما تكرر- عند اللزوم- في السعودية والمغرب والأردن.. بل وفي تونس أيضا.