حققت تركيا حزمة من الاختراقات في شؤون القرن الإفريقي منذ مطلع العام الجاري؛ لا سيما من جهة فرض إرادتها بشكل واضح في العديد من الملفات المتناقضة تقليديًا، مثل تحقيق اصطفاف مهم مع مصر في سياسات القرن الإفريقي (بعد مصالحة متدرجة بين القاهرة وأنقرة توجت بزيارة تاريخية وأولى للرئيس عبد الفتاح السيسي للأخيرة في سبتمبر 2024)، وتعميق التعاون العسكري الثنائي مع الصومال، ثم اختتمت تركيا اختراقاتها الهامة في ديسمبر الجاري بالتوصل لاتفاق بين الصومال وإثيوبيا في جولة المحادثات الثالثة بينهما برعايتها.
ويُتوقع مواصلة تركيا سياساتها الناجعة في الإقليم مع تولي الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب السلطة رسميًا في 20 يناير المقبل، وهو الأمر الذي كشفت عنه الرئاسة التركية بإعلان زيارة مرتقبة للرئيس رجب طيب أردوغان للإقليم في يناير أو فبراير المقبلين، وما رشح عن بيان للخارجية الإماراتية (28 ديسمبر الجاري) من دعم أبو ظبي لمساعي تركيا في الشأن السوداني.
ويرجح أن تكون زيارة أردوغان المرتقبة مواكبة لقمة الاتحاد الإفريقي المقرر عقدها في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
وعلى خلفية هذا الاختراق التركي؛ تتجسد مخاوف مصرية مفهومة من احتمالات تجاوز تركيا فعليًا مصالح القاهرة، أملًا في تعزيز المكانة التركية في الإقليم، وجعل الاهتمامات المصرية مجرد جانب من جوانب الدبلوماسية التركية في القرن الإفريقي.
الأمر الذي اتضح في دفع مصر بقوة لحماية مصالحها بقدر أكبر من الاعتماد على المقاربات الثنائية مع دول الإقليم، كما يتضح في الملف الصومالي؛ مع إقرار مجلس الأمن تكوين قوة الاتحاد الإفريقي متضمنة مشاركة مصرية مع استبعاد القوات الإثيوبية.
تركيا في القرن الإفريقي: مكاسب بالجملة!
أنهت تركيا في ديسمبر الجاري التوتر القائم بين أكبر بلدين في القرن الإفريقي: إثيوبيا والصومال، وتمكنت الدبلوماسية التركية من نزع فتيل حرب إقليمية، كانت ستطل برأسها مطلع العام المقبل على خلفية مطالب مقديشو لأديس أبابا بسحب قواتها من الصومال، ورفض الأخيرة على نحو أنذر بحرب مفتوحة بين جيشي البلدين.
وجاءت الخطوة التركية ناجحة في اتفاق إثيوبيا والصومال على تفهم سيادة واستقلال وسلامة أراضي البلدين، مما عني ضمنيًا تراجعًا إثيوبيًا أوليًا عن مذكرة التفاهم التي سبق أن وقعتها أديس أبابا مع إقليم أرض الصومال (يناير 2024)، واستعدادًا صوماليًا للانفتاح على مساعي إثيوبيا الحصول على ميناء بحري على السواحل الصومالية، وإن كان بشروط أقل تفضيلًا، مما كانت تقتضيه مذكرة التفاهم المشار إليها.
ويرجح أن تكون ثمة رعاية تركية مباشرة لهذا المسار، وربما مواصلة ذلك بعد الاتفاق فعليًا، بحيث تكون أنقرة ضامنة لسلاسة التطبيق والعمل في الميناء الصومالي المرتقب منحه لإثيوبيا.
ومثل الاتفاق الذي رعته أنقرة في نهاية ثلاث جولات من المحادثات بين مقديشو وأديس أبابا تتويجًا للدبلوماسية التركية وخطوة هامة، حظيت بتقدير إقليمي ودولي كبير، نحو تهدئة التوتر بين البلدين الإفريقيين.
بأي حال، فإن الدبلوماسية التركية تعمل بقوة قبل محطتين هامتين في نصف العام المقبل، أولاهما زيارة أردوغان لإثيوبيا والصومال في يناير- فبراير المقبلين، ثم الموعد المحدد وفق أنقرة لإنهاء صيغة الاتفاق بين إثيوبيا والصومال في إبريل 2025.
وتكمن أهمية الاتفاق، حتى اللحظة الراهنة، في تعزيزه التحولات داخل الصومال التي تستهدف تعزيز السلطة المركزية ممثلة في حكومة مقديشو والرئيس حسن شيخ محمود بعد تهديد هذه السلطة من قبل أطراف موالية للوجود الإثيوبي في ولايات متفرقة من البلاد، وتراجع قدرة الحكومة على مواجهة تهديدات جماعة الشباب، ودفع إثيوبيا نحو إعادة التأكيد الواضحة على احترامها سيادة الصومال واستقلاله وسلامة أراضيه، مما يؤشر إلى تراجع أديس أبابا عن الاعتراف باستقلال إقليم ارض الصومال، على الأقل كخيار تكتيكي راهن (في ضوء التجارب السابقة التي تشير لتوظيف أديس أبابا أوراق متناقضة في الشأن الصومالي وعدد من دول جوار إثيوبيا).
كما يدعم الاتفاق، من جهة أخرى، مصالح إثيوبيا الدفاعية والاستراتيجية بشكل كبير مع تعهد تركيا بدعم أديس أبابا عسكريًا واقتصاديًا في الفترة المقبلة، إضافة إلى الهدف الرئيس للاتفاق، وهو تمكين الأخيرة من الحصول على منفذ بحري في الصومال.
وعززت تركيا حضورها في الصومال بشكل ملفت مع نهاية العام الجاري، كما اتضح في إطلاق حزم من البرامج والاتفاقيات بين البلدين، ومنها إعلان الرئيس حسن شيخ محمود (18 ديسمبر) الاتفاق على بدء تركيا إقامة منصة إطلاق صواريخ في الصومال “ما ميز دفعة لبرنامج تركيا لاختبار الصواريخ بعيدة المدى”.
وكذا المساعي التركية لتحقيق اختراقات في برنامج الفضاء (الذي أطلق في العام 2021) عبر الاستفادة من مسرح عمليات ممتد في المحيط الهندي انطلاقًا من الأراضي الصومالية؛ وما يعنيه ذلك من رسوخ قدم تركيا عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر والتحكم في ديناميات التفاعلات الإقليمية به.
وكذلك إعلان البلدين عن توقيع اتفاق جديد بين وزارة الزراعة والغابات التركية ووزارة المصايد والاقتصاد الأزرق الصومالية (21 ديسمبر)، يتيح للصيادين الأتراك العمل داخل مياه الصومال الإقليمية؛ رغم القيود التي تفرضها مقديشو على مثل هذه الأنشطة لحماية ثروة الصومال البحرية والحفاظ عليها.
ووصفت تقارير صومالية الاتفاق، الذي جاء بعد أقل من عام من حظر مقديشو عمليات الصيد غير القانونية في إبريل 2024، بأنه حلقة جديدة في استراتيجية تركيا في القرن الإفريقي ووفق تطبيق متسارع لبنود اتفاق التعاون الدفاعي والاقتصادي بين تركيا والصومال (فبراير 2024)، والمقرر تنفيذه على مدار عشرة أعوام، ويخول تركيا مسئولية بناء وتحديث وتدريب قوات الصومال البحرية.
ويمكن النظر لنجاح تركيا في القرن الإفريقي ضمن جهود دولية متصاعدة في الإقليم، كان آخر حلقاتها الجهود الفرنسية، كما تمثلت في زيارات مسئولين فرنسيين لجيبوتي وإثيوبي توجتها زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لجيبوتي وإثيوبيا (21 ديسمبر)، وتأكيده دعم باريس لمساعي إثيوبيا الحصول على منفذ بحري “عبر المناقشات واحترام القوانين الدولية و(سيادة) دول الجوار.
ورحب ماكرون “بإعلان أنقرة” الذي تم التوصل له بين أديس أبابا ومقديشو في 11 ديسمبر؛ الأمر الذي يكشف عن حجم النجاح التركي في القرن الإفريقي، وصولًا إلى ما يمكن وصفه بلحظة تركيا التاريخية في الإقليم.
مصر واللحظة التركية في القرن الإفريقي
حققت تركيا إجمالًا، مكاسب كبيرة من وراء تدخلها في تسوية النزاع بين الصومال وإثيوبيا بخصوص التوتر بينهما في ملفات مذكرة التفاهم بين أديس أبابا وهرجيسا، ومستقبل وجود القوات الإثيوبية في قوات الاتحاد الإفريقي العاملة في الصومال، ومجمل العلاقات الإثيوبية الصومالية في المرحلة المقبلة.
كما عزز الاتفاق وجود تركيا في الصومال والقرن الإفريقي على نحو كامل ومتضمن أبعاد اقتصادية وعسكرية وأمنية مهمة، تعزز جميعها من قدرة تركيا على القفز من مصاف الدول المتوسطة إلى دولة كبرى فاعلة ومؤثرة، ويعول عليها بشكل كامل في تسوية النزاعات والمشكلات الإفريقية، وقادرة على توظيف أدوار قوى إقليمية متفاوتة القوة لصالح استراتيجياتها وسياساتها.
وتتقاطع هذه الملفات بشكل مباشر مع الاهتمامات والمصالح المصرية في القرن الإفريقي، لا سيما أن القاهرة انتهجت منذ منتصف العام الجاري سياسة نشطة في الإقليم مكنتها من العودة القوية سياسيًا ودفاعيًا في دول الإقليم المطلة على البحر الأحمر (إريتريا وجيبوتي والصومال)، تجسدت ذروتها في توقيع اتفاق تعاون دفاعي مع الصومال وإعلان القاهرة إرسال قوات مصرية إلى الصومال لمساعدته في الدفاع عن التهديدات الداخلية والخارجية التي تهدد سيادته واستقلاله.
ولم تكن الدبلوماسية المصرية تجاه الإقليم بعيدة عن وجود تفاهمات مهمة مع تركيا (ذات الحضور الكبير في الصومال على وجه الخصوص).
في مقابل استنتاجات غير مؤكدة بعدم إحاطة تركيا مصر بمسار التفاوض الصومالي الإثيوبي؛ فيما باشرت الدبلوماسية الصومالية هذه المهمة، ربما تجنبًا لإثارة مزيد من الحساسيات الإثيوبية القائمة بالفعل تجاه سياسات مصر في الإقليم.
بأي حال، فإن النهج التركي الذي تتبدى ملامحه في الأزمة السورية الراهنة (ومن قبلها في ليبيا بالنسبة لمصر)، وتجاهل أنقرة كافة محددات الأمن القومي المصري المعروف بسياساته الحذرة الرافضة لتقويض الدولة السورية (فيما بات مفهوم الأمن القومي العربي محل تساؤلات جذرية مشككة في مضمونه وحدوده)، أصبح يثير مخاوف حقيقية لدى القاهرة إزاء حقيقة الدعم التركي لسياساتها في القرن الأفريقي، والذي ربما يتراجع في أي لحظة لصالح التوافقات الإثيوبية- الصومالية المرتقب إنجازها في ربيع 2025.
كما أن حسم تركيا دورها لصالح تأمينها مصالح بعيدة المدى، مثل تمكين الشركات التركية من الاستحواذ على غالبية حصة مشروعات البنية الأساسية في الصومال والتي ستنتج عن توقيع اتفاق نهائي مع إثيوبيا مثل تحديث الموانئ الصومالية وشبكات النقل وغيرها من المرافق المتعلقة بالتجارة، يمثل في المقام الأول جزءًا من استراتيجية تركيا المعروفة بتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي في أفريقيا،
وفي المحصلة تعظيم الوجود التركي في نطاق البحر الأحمر والمحيط الهندي. وتتسق الاستراتيجية التركية بشكل غير قابل للشك مع الاستراتيجية الأمريكية المرتقبة في الإقليم، بحيث يمكن القول، إن تركيا ستمثل رافعة السياسة الأمريكية فيها، بما في ذلك واحد من أهم ملفاته: أزمة سد النهضة بين إثيوبيا من جهة، ومصر والسودان من الجهة الأخرى.
تركيا وملف سد النهضة: وساطة بالوكالة!
لا يتوقع في ضوء السياسات الأمريكية الراهنة، والتي تميل إلى تفجير الأوضاع في الشرق الأوسط والبحر الأحمر، أن تعاود واشنطن الاهتمام بإطلاق وساطة جادة في ملف سد النهضة، على نحو ما شهدته الشهور الأخيرة من إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب بقيادة وزارة الخزانة الأمريكية.
لكن السيناريو الذي تتبدى ملامحه راهنًا، يشير إلى تكليف تركيا بالعمل على هذا الملف كونها تتمتع بعلاقات ممتازة مع إثيوبيا وعلاقات باتت دافئة مع مصر (رغم مؤشرات التوتر الحالي). وفي حال تحقق ذلك، فإن قواعد التفاوض والمخرجات المتوقعة ستكون دون الحدود المتوقعة مصريًا، الأمر الذي يؤشر إلى ضرورة تنبه القاهرة لمجمل عروض الوساطة التركية ودراستها بتفصيل أكبر تفاديًا لبدء حلقة جديدة من المفاوضات غير المجدية.
كما أن أية وساطة تركية مرتقبة في الملف ستكون- بكل تأكيد- دفعًا قويًا في مسار إعادة تشكيل إقليم الشرق الأوسط والبحر الأحمر وفق التصورات الأمريكية (بدعم تركي وإسرائيلي مطلق، وخليجي إلى حد كبير) وفرض مزيد من القيود على حركة مصر ومصالحها.
الأمر الذي يشير إلى حجم التحديات التي تواجه مصر في الملف، مضافًا لها الضغوط الإقليمية المتزايدة في شرق المتوسط، واحتمالات تجدد الأزمة في ليبيا، عوضًا عن معاناة القاهرة من تداعيات الأزمة في السودان في الأعوام الأخيرة.
وتعزز تلك الضغوط، لا سيما بعد درس الأزمة في سوريا، فرضية تراجع واشنطن بقيادة الرئيس المنتخب دونالد ترامب عن الانخراط المباشر في ملف سد النهضة أو العناية بمعالجة المخاوف المصرية في البحر الأحمر والقرن الإفريقي لصالح ممارسة مزيد من الضغوط على مصر. وأن التعويل على لاعبين دوليين وإقليميين (خارج دائرة واشنطن اللصيقة) في مساعي حل أزمة سد النهضة، سيتراجع إلى حدود دنيا جديدة.
خلاصة
تشير ما يمكن وصفه بلحظة تركيا “التاريخية” في القرن الإفريقي إلى آفاق التوصل لحلول سلمية لأزمات مزمنة في الإقليم عن طريق مفاوضات ماراثونية برعاية تركية، وربما شمول هذه الوساطات واحدة من أهم الأزمات الإفريقية، وهي أزمة سد النهضة بين إثيوبيا ومصر في الحالة الراهنة.
إضافة إلى ملامح قيام أنقرة (المعروفة بعلاقاتها الوطيدة بقيادات الجيش السوداني) بوساطة هامة في الأزمة السودانية.
وتشير هذه التطورات إلى تمتع تركيا بمقبولية ملفتة بين دول الإقليم، وقدرة على العمل على جمع تناقضات السياسة الإقليمية والدولية به بشكل واضح. وهي تطورات يجب أن تثير علامات استفهام في القاهرة، وجهود بضرورة قراءة المشهد في القرن الإفريقي من خارج الزاوية التركية هذه المرة.
لكن هذا المسار الصاعد لتركيا في الإقليم يواجه مع بدء العام 2025 تحديات خطيرة مع استبعاد الصومال للقوات الإثيوبية من بعثة الاتحاد الإفريقي الجديدة AUSSOM وبدء مصر عمليًا نشر قواتها في الصومال تحت مظلة هذه البعثة بدءًا من يناير 2025، وهو ما دفع عدد كبير من المراقبين المحليين (في الصومال وإثيوبيا على حد السواء) إلى إثارة شكوك حول مستقبل المحادثات الثنائية بين البلدين برعاية تركية، الأمر الذي اتضح في إعلان إثيوبيا رسميًا (28 ديسمبر) معارضتها لخطوة مجلس الأمن وسط تصريحات رسمية مناوئة لوجود مصر في هذه القوات.
وستكون الفترة المقبلة اختبارًا حقيقيًا لقدرة تركيا على مواصلة اختراقاتها في القرن الإفريقي من عدمها، وكذلك قدرة دول مثل مصر وإريتريا والسودان والصومال على انتهاج سياسات إقليمية تكاملية ناجزة، تسهم في تحقيق الأمن والاستقرار في الإقليم وتخفض حجم الاعتماد على تركيا في هذا المسار.