هناك من قرر ألا يضع سوريا في إطار تجارب التغيير العربية؛ لأن من قام بها إسلاميون متشددون، وهناك من أخرجها أيضا؛ لأن التغيير جرى عبر تنظيمات مسلحة أسقطت النظام في عشرة أيام، ولم تعرف الحراك الشعبي والمدني الذي عرفته بعض التجارب، رغم أن الثورة السورية بدأت كانتفاضة شعبية مدنية، قبل أن يقمعها النظام ويدفعها نحو العسكرة وحمل السلاح، وهناك أخيرا من رفض إسقاط نظام الأسد؛ لأنه تصور أنه نظام “ممانع” ومقاوم، وأن النظام الجديد لا يحارب إسرائيل، ولن يحرر الجولان، رغم أن النظام السابق لم يحارب إسرائيل ولم يحرر الجولان.
ورغم وجود هذه الآراء المعارضة للتغيير في سوريا، إلا أن أغلب الرأي العام العربي دعم إسقاط النظام الاستبدادي في سوريا، وأصبح المطروح مناقشة مستقبل هذه التجربة في إطار فشل أو تعثر تجارب التغيير العربية سواء التي تمت عبر غزو خارجي، كما حدث في العراق في 2003 أو عبر انتفاضات شعبية مدنية، كما حدث في مصر وتونس اللتين حافظتا على دولتهما الوطنية، ولكنهما لم يبنيا ديمقراطية ودولة قانون، وحتي السودان التي شهدت انتفاضة شعبية في مواجهة حكم عسكري ديني نجحت في إسقاطه، ولكنها عرفت حربا مسلحة بين الجيش والدعم السريع، لا زالت مستمرة حتى الآن، وجعلت الشعب السوداني، ينتظر الأمن قبل الديمقراطية. أما ليبيا فقد شهدت انتفاضة شعبية ومسلحة دعمها الناتو أسقطت نظام القذافي، ولكنها لم تبن مؤسسات ولا ديمقراطية وظل الانقسام بين طرابلس الغرب وبني غازي في الشرق واقعا معاشا حتى اللحظة.
وحتى البلاد التي شهدت موجه ثانية من الانتفاضات العربية، وسميت “بالحراك الشعبي” سواء في الجزائر أو العراق أو لبنان، لم تسقط ولم تصلح منظومة الحكم القائمة، وبقيت الأمور على حالها مع بعض التحسينات والتغييرات المحدودة والشكلية.
وهنا سيصبح التساؤل، ما هو مصير تجربة التغيير السورية في منطقة عربية مأزومة، تراوحت مآلات تجارب التغيير فيها بين الفشل والتعثر، وما هي المقومات التي يمتلكها المسار الحالي، ويجعل فرص نجاحه أعلى من تجارب التغيير الأخرى، وما هي أيضا المخاطر والتحديات التي تواجه هذه التجربة؟
النقطة الأولى، تتعلق بطريقة تعامل النظام الجديد مع المنظومة القديمة بمختلف أركانها، فهناك إصرار مشروع على محاسبة كل الذين أجرموا في حق الشعب السوري من الأجهزة العسكرية والأمنية و”الشبيحة”، وفي نفس الوقت فتح باب العفو عن الجنود والمغلوبين على أمرهم ومنفذي الأوامر التقدم بطلبات للسلطة الجديدة من أجل تسوية أوضاعهم وبعضهم عاد بالفعل إلى عمله.
وقد أكد قادة المسار الجديد، وعلى رأسهم احمد الشرع على حرمة الدم ورفض الانتقام العشوائي وتصفية الحسابات، خاصة أن الإدراك الذي في ذهن الكثيرين، أن “عمق” الحكم في سوريا الأسد مرتبط بطائفة بعينها؛ بسبب وجود قيادات كثيرة من الطائفة العلوية على قمة أجهزة الأمن والمخابرات، مارست أبشع صور التعذيب والجرائم بحق باقي أبناء الشعب السوري، وبالتالي فإن خطر الانتقام المذهبي نظريا وارد، ولكنه لم يحدث، ونتمنى ألا يحدث؛ لأن ذلك سيكون بداية فشل المسار الانتقالي.
كما غابت حتى اللحظة المفردات المشتقة من كلمة “اجتثاث” التي راجت في العراق وليبيا وحتى السودان الذي عرف ثورة مدنية سلمية، لم يتوقف شبابها عن مطالبتهم لأكثر من عام بتفكيك النظام القديم واجتثاث رموزه، ولا زال الكثيرون يتذكر كيف تحولت قضية محاسبة الفلول و”أمسك فلول” في مصر عقب ثورة يناير إلى هدف أساسي للثورة عطلت من مسارها ومن قدراتها على تأسيس نظام جديد قادر على استيعاب الجميع.
اللافت أن فصيلا إسلاميا مسلحا مثل “هيئة تحرير الشام” يمتلك أساسا عقائديا ودينيا ومذهبيا، قد يبرر له إقصاء الخصوم والمخالفين والقضاء عليهم، ولكنه اختار أن يفعل عكس ما جرى في تجارب تغيير مدنية وسلمية أخرى داخل العالم العربي.
سيظل مأمولا، أن يستمر هذا الخطاب المتحكم في المشاعر و”الفتاوى” السياسية والدينية الإقصائية، وأن تحدث قطيعة مع هذا الخطاب الثوري الذي وظفته تيارات كثيرة في العالم العربي من الإخوان في مصر حتى القوى الثورية في السودان؛ لأن طبعة التغيير “الثورية” في سوريا، إذا تبنت مشروعا دينيا ستمتلك مبررات أكثر من غيرها للانتقام والثأر، ولكنها مطالبة أن تفعل العكس، وأن يكون مشروعها “إصلاحي” بامتياز، مهما كانت مغريات الخطاب الثوري الإقصائي الذي راج في أكثر من بلد عربي، وكان أحد أسباب الإخفاق الذي حدث.
أما النقطة الثانية فهي تتعلق بخصوصية الحالة السورية التي تنطلق، من أن من قاموا بالتغيير نالوا ما يشبه الإجماع من قبل الغالبية الساحقة من أبناء الشعب على إسقاط النظام، وهذا ترتب عليه أن كلا من التيار المدني والديني، والغالبية العظمي من أبناء الطوائف الأخرى، دعموا التغيير في سوريا، حتى لو كان من قام به فصائل إسلامية مسلحة، فأمام جرائم النظام السابق توارى الخلاف المدني/ الديني، وأصبح هناك قبول لمن “حرر سوريا”، مهما كان توجهه السياسي والعقائدي.
ومن هنا، فإن الدرجة التي وصل لها استبداد نظام بشار، جعلت كثير من الانقسامات السياسية تتراجع أو تخفت في الحالة السورية أمام هول هذه الجرائم وحجم النذالة التي باع بها بشار رجاله، حين هرب إلى روسيا وتركهم لمصيرهم، وهو أمر فعل عكسه الرئيس مبارك حين بقي في بلده وعاش ومات وحوكم فيها، وظل هناك تيار من الشعب يؤيده حتى اللحظة.
سيبقى التحدي الحقيقي الذي يواجه النظام الجديد هو استكمال المسار الانتقالي وبناء مؤسسات الدولة الجديدة بشكل مهني ومستقل عن الفصائل السياسية المسلحة وغير المسلحة، فكيف يمكن بناء جيش وطني وأجهزة أمنية وسلطة قضائية مستقلة أو شبه مستقلة، لا تخضع لمحاصصة القوى السياسية والفصائل؟ وما هو الأساس العقائدي الجديد الذي على أساسه سيبنى جيشا وطني مهني محايد، وهل ستستطيع سوريا أن تبني مؤسسات قادرة على دمج الفصائل المسلحة في داخلها، وتحويل ولائها من ولاء ديني فصائلي إلى ولاء وطني عام؟
فرص النجاح قائمة والتحديات لا زالت قائمة أيضا.