عند رحيل الرئيس السوري “حافظ الأسد” في يونيو عام (2000)، وبدء إجراءات نقل السلطة بـ”التوريث” من الأب إلى الابن بدا العالم العربي، وليست سوريا وحدها، كمن يوشك أن يدخل حقبة جديدة من تاريخه الحديث تحت عنوان: “توريث الجمهوريات”.

في نصف ساعة، تغير الدستور وتبدت احتمالات أن يتكرر السيناريو نفسه في مصر ودول عربية أخرى.

كانت حوادث يونيو من ذلك العام الفاصل بين قرنين أقرب إلى أجراس إنذار، لما هو آتٍ.

صمتت الصحف المصرية كلها، باستثناء صحيفة “العربي”، على ما كان يجري في سوريا، واحتمال أن يحدث مثله في مصر.

أعدت ملفا استثنائيا بتاريخ (18) يونيو (2000)، مانشيته الرئيسي: “نحترم حافظ الأسد ونرفض توريث الرئاسات”.

“إن احترامنا للدور البارز الذي لعبه الرئيس الأسد في رفض الإملاءات الإسرائيلية، أو قبول التخلي عن شبر واحد من الجولان المحتلة، أو دعم المقاومة في الجنوب اللبناني، حتى أجبرت آلة الاحتلال على الانسحاب الذليل، لا يمنعنا ان نرفض بصورة واضحة ومبدئية توريث الرئاسات، أو انتقال السلطة من الأب إلى الابن في النظم الجمهورية… أيا كانت الأسباب والمبررات والمخاوف، نرفض توريث الرئاسات، ونعده تطورا سلبيا وخطيرا، يغري بتكراره في أكثر من بلد عربي”– كما كتبت يومها.

ترددت في أرجاء ذلك العدد الاستثنائي عبارات “الوريث” و”الوريث الابن” و”الجمهورية” و”الجمهوريات الملكية” و”الجمهوريات الوراثية”، كما جرت إشارات إلى سيناريوهات محتملة لتصعيد “جمال مبارك” إلى مقعد والده.

كانت تلك الطلقة الأولى في أطول حملة صحفية ضد “التوريث” في مصر، امتدت حتى ثورة (25) يناير (2011).

أُجري بالعدد نفسه حوار مع “ياسين سراج الدين” رئيس الكتلة النيابية لحزب “الوفد” وشقيق زعيمه وأحد المتنازعين على قيادته، كان موضوعا لمانشيت آخر: “أرشح جمال مبارك رئيسا لمصر”!

لم يكن ذلك موقف الدكتور “نعمان جمعة”، الذي صعد بعد وقت قصير لرئاسة الحزب العريق.

بدت مصر عند مفترق طرق جديدة والأسئلة القلقة، تداهم الأبواب المغلقة.

سوريا أولا.. ثم تبعتها مصر، دون أن يصعد النجل الأصغر للرئيس إلى الرئاسة الفعلية.

وصفت “العربي” “جمال مبارك” في عناوينها الرئيسية بـ”الرئيس الموازي”.

كان ذلك توصيفا دقيقا للأدوار، التي يلعبها دون سند دستوري.

على مدى عقد كامل أُنهكت مصر من ازدواجية صنع القرار بين حرسين، قديم يخضع لتعليمات “الرئيس الأب”، وجديد يوالي “الرئيس الابن”.

في بداية صعوده، أدخل إلى الهيكل القيادي للحزب الوطني الحاكم، حتى يكتسب خبرة العمل السياسي، لكنه بدأ يمارس أدوارا أكبر، مما يقتضيه منصبه.

ذات مرة لفت انتباهه الدكتور “يوسف والي” أمين عام الحزب، إلى أنه هنا “لكي يسمع ويتعلم، لا أن يتدخل ويملي”.

“والي” هو صاحب القول الشهير: “نحن مجرد سكرتارية للرئيس”.

لم يكن مستعدا، أن تمتد أعمال السكرتارية إلى نجل الرئيس.

كانت تلك نهاية الدور الحزبي لنائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة أغلب سنوات “مبارك”.

لم يكن الحزب الوطني الديمقراطي حزبا حقيقيا، بقدر ما كان تجمعا لأصحاب المصالح، يلتصق بالسلطة، أي سلطة.

كان مزيجا من بيروقراطية الدولة ونفوذ الأمن.

في لحظة الثورة بدا الانكشاف كاملا للبنية السياسية المصطنعة.

دفع النظام ثمنا مستحقا لاختراق الأحزاب السياسية من داخلها، وتفجيرها في بعض الحالات، ومنعها من ممارسة أي دور يتجاوز مقراتها.

بقدر ما تكون الحياة السياسية صحية وقابلة لاكتساب الثقة العامة، فإن قواعد النظم تتأسس على أرض صلبة.

هذا من دروس ثورة “يناير” المهدرة.

لم يكن ذلك وحده مكمن الخطر الرئيسي في بنية النظام، بقدر ما كان في إدراك الحكومة بكل مكوناتها، من اختارهم ومن لم يخترهم، أنه صاحب الكلمة النافذة، وربما الأخيرة، وأن مصيرهم معلق، بمدى ما قد يمنحه من ثقة أو يعرب عنه من غضب.

باتت الحكومة تابعة لـ”الوريث المحتمل”، تتلقى منه التعليمات والتوجيهات.

بدأ يتصرف على هذا الأساس، يحدد الخطوط العامة، لما يجب أن تلتزم به، أو ما قد يصدر، أو لا يصدر من تشريعات في المجلس النيابي.

التجربة السورية تتقاطع وتختلف، حيث قفز الابن مرة واحدة إلى مقعد الرئاسة.

نازعته في البداية فكرة الانفتاح على المكونات السياسية والثقافية المتباينة، لكنه وجد نفسه أسيرا لطبيعة النظام الأمني، الذي ورثه بكل أثقاله.

في ذروة ما أطلق عليه “الربيع العربي”، الذي بدأ في تونس ومصر، التحقت سوريا بموجة الاحتجاجات المطالبة بالتحول إلى الديمقراطية.

كان الصدام مروعا، واستحالت نسائم الحرية إلى عنف وبارود وحروب إقليمية ودولية.

دخلت على خط المواجهات دول واستخبارات تخطط وتمول وتسلح.

مُرر عبر الحدود مرتزقة وجهاديون، لا يمكن نسبتهم إلى الديمقراطية بأية صلة.

استعان النظام بحلفاء إقليميين ودوليين، فيما سيطرت أطراف تعادي توجهاته على مناطق شاسعة من الوطن السوري، الذي بدا ممزقا وإرادته في حالة شلل.

لم يكن حزب البعث، من حيث نشأته وأفكاره، حزب سلطة، بقدر ما كان حزبا وحدويا حقيقيا، لكنه فقد صفته الشعبية بتغول السلطة على سياساته وبنيته بالكامل.

استحال إلى حزب يتبع الاستخبارات، ولم يكن له دور يذكر في الصراع الضاري على سوريا، مستقبلها ومصيرها.

رغم اختلاف النشأة بين الحزب الوطني في مصر وحزب البعث في سوريا، إلا أن النهايات بدت واحدة.

وصلت المأساة أن البعث السوري، والبرلمان الذي يتبعه، أيدا “هيئة تحرير الشام”، التي طالما دُمغت بالإرهابية.

في لحظات النهاية بدا النظامان بلا ظهير سياسي، فقد انهار حزب السلطة مع أول هتاف في ميدان “التحرير”، أو أول رصاصة أطلقت في حلب.

ما هو مصطنع يسقط في كل اختبار.

سقط “مبارك”؛ لأن نظامه تقوّض من الداخل دون حاجة إلى مؤامرة وعجز بالكامل عن الاستجابة لحقائق عصره، وأولها التحول إلى دولة مدنية حديثة ديمقراطية وعادلة.

وسقط “بشار الأسد” لأسباب مشابهة، عندما تخلى عنه الحلفاء الإقليميون والدوليون وتركوه وحيدا.

لم يكن له سند شعبي يحميه ويدافع عنه.

العوز الاجتماعي عنوان آخر لأزمة النظامين.

بالأرقام تجاوزت نسبة النمو حاجز الـ(٧٪)، وهي نسبة لا مثيل لها في التاريخ المصري المعاصر، غير أنها لم تمنع الانفجار الاجتماعي الذي أطاح النظام كله.

ذهبت عوائد النمو إلى طبقة رأسمالية متوحشة، توغلت في الفساد، وجنت أموالها من زواج السلطة بالثروة.

في الغنى الفاحش بغير إنتاج حقيقي والفقر المدقع بغير أمل بالحياة، تعمقت التناقضات إلى حدود استدعت قلقا داخل قطاع الأعمال الخاص نفسه.

هكذا كان الوضع في مصر لحظة سقوط النظام.

اللافت هنا، أن الوجوه نفسها، التي أثبت فشلا ذريعا اقتصاديا واجتماعيا قبل ثورة “يناير”، تتولى الآن مهام النصح والإرشاد!

في سوريا بدت الصورة أبشع والفقر أفدح لاعتبارين متداخلين.

أولهما، تفشي الفساد في بنية النظام والدولة.

ثانيهما، الحصار الاقتصادي الخانق على النظام عقابا له على المواقف التي يتبناها في الصراع العربي الإسرائيلي.

لا يكفي أن تتخذ موقفا صحيحا في سياستك الخارجية، حتى تكتسب شعبية حقيقية، لا بد من اتساق المواقف والقرارات، وأن يكون شعبك داعما ومؤيدا.

بحكم خبرته العسكرية الطويلة لم يكن الرئيس الأسبق “مبارك” يجهل حقائق القوة، غير أنه لم يكن حازما في وقف لعنة التوريث، وترك التفاعلات تمضي إلى نهاياتها المحتمة.

بقدر آخر لم يتبن الرئيس “حافظ الأسد” علنية سيناريو التوريث، لكنه ترك كل شيء جاهزا، وكانت النتائج كارثية على سوريا كلها، لا على عائلته وحدها.

إذا لم نقرأ التاريخ ونستوعب دروسه، فإن اللعنة نفسها قد تتكرر.