في حادث استثنائي، فاجأ الأطراف كافة، تحركت الجماعات المدعومة تركيا وغربيا، والتي كانت تدعى إرهابية، ثم باتت “معارضة مسلحة”، لتلتهم الأراضي والمدن السورية قطعة تلو الأخرى، دونما مواجهة ودونما حرب، ليستيقظ العالم العربي صباح 11 نوفمبر على خبر سقوط دمشق في قبضة تلك الفصائل، التي كان العالم يصنفها على قوائم الإرهاب، وبالتالي الدولة السورية بكامل تاريخها، بينما انتقصت من جغرافيتها كل من تركيا وإسرائيل، التي بادرت الفصائل وقائدها أبو محمد الجولاني “بات اسمه أحمد الشرع”، بإرسال التطمينات المتتالية لها، مؤكدا هو ورجاله، أنه لا ينوي ولا يريد قتال إسرائيل، أو حتى إغضابها بتصريح سياسي.
المشهد استدعى ثورة في التحليل السياسي، ورصدا لتبعاته على الأمنين القوميين المصري والعربي، وكان لـ”مصر 360″ نصيب كمي ونوعي من ناحية الكتابات التي تناولت زوايا المشهد.
الكاتب عبد الله السناوي لم يخف قلقا، دفعه لسؤال عن مصير سوريا، التي سبق واستهدف الغرب وحدة أراضيها عبر اتفاقية سايكس بيكو.
ورصد السناوي كيف بدت الخرائط المصطنعة وفق تلك الاتفاقية تعبيرا عن حسابات تقاسم نفوذ ومصالح في عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى، وتَقوض الإمبراطورية العثمانية، التي كانت توصف بـ”رجل أوروبا المريض”.
اقرأ: السؤال السوري.. إلى أين المصير؟
ويطرح الأمر ببساطة: “القضية ليست “بشار الأسد”.
الأخطاء والخطايا لا تحصى، غير أن وحدة سوريا قضية أخرى.
التهاون في الأبجديات؛ يورث الكوارث التاريخية التي لا سبيل لتصحيحها.
بقوة حقائق الجغرافيا السياسية، سوريا ليست بلدا عاديا، ما يحدث فيها الآن، يؤسس لأوضاع ومعادلات وخرائط جديدة في المنطقة بأسرها، مصر على وجه الخصوص.
ويعود للتاريخ ليستعيد كلمة جمال عبد الناصر عقب أسبوع من انهيار مشروع الوحدة بين البلدين: “عن الوحدة الوطنية في الوطن السوري تحتل المكانة الأولى.. إن قوة سوريا قوة للأمة العربية وعزة سوريا عزة للمستقبل العربي والوحدة الوطنية في سوريا دعامة للوحدة العربية وأسبابها الحقيقية”.
وما زلنا مع السناوي الذي منح الملف الكثير من وقته وجهده، حيث ينتقل للتحدي من أن سقوط دمشق قد يعني ببساطة، بداية الحقبة الإسرائيلية في المنطقة.
اقرأ: الحقبة الإسرائيلية على مرمى البصر!
يرى السناوي، أن سقوط دمشق ينذر بضربات أخرى في المشرق العربي واصلة إلى مصر.
الخرائط قد تتغير جراحيا والحقبة الإسرائيلية على مرمى البصر.
ويعتبر أن التزامن ما بين وقف إطلاق النار في لبنان والهجوم المباغت على حلب، قبل أن تسقط العاصمة دمشق خلال عشرة أيام، دون قتال من جانب جماعات مسلحة، تدعمها الاستخبارات التركية، وتوصف دوليا بالإرهابية؛ داعيا للتساؤل عما وراء العواصف من تفاهمات وخيانات.
ويرصد المستفيدين حيث بنظرة أولى، “أردوغان” هو المستفيد الرئيسي.
بنظرة ثانية، رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” مستفيد رئيسي آخر، ربما أكثر من “أردوغان”. وكلاهما حاول أن ينسب ما جرى لنفسه، ويوظفه لمقتضى حساباته السياسية الداخلية.
ويخلص السناوي، إلى أنه لم تهزم المقاومة في غزة ولبنان، لكنها خُذلت تماما.
هذه هي الحقيقة الكبرى، فيما وصلنا إليه.
ومن الرصد وكشف المستفيدين، ينتقل السناوي إلى قراءة مشهد “لحظة النهاية” مقارنة بين مشهدية إعدام صدام حسين الرئيس العراقي الأسبق، وخروج بشار الأسد الي موسكو، بصورة يراها السناوي خالية من “هيبة النهايات”.
اقرأ: مفارقات ومراجعات عند لحظات النهاية!
وفي مقارنة دالة يقول: “كلاهما، “صدام” و”بشار” ينتسب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي بجناحيه المتصارعين العراقي والسوري.
الأول، صعد من صفوفه مناضلا عاديا إلى مواقع القيادة، اشتُهر عنه الجسارة والميل إلى العنف.
والثاني، ورث قيادته مع وراثة رئاسة الدولة عن والده حافظ الأسد.
في لحظات النهاية، بدا التوريث لعنة، أصابت عائلته وطائفته بأضرار يصعب وضع حد لها.
ويواصل رصد لحظة النهاية، حيث انهار كل شيء، الجيش والأمن والبرلمان وحزب البعث نفسه، الذي سارع بإدانته وتأييد القادمين الجدد!
ويقرأ فصل النهاية مؤكدا، أن الحوادث المتدافعة أثبتت صحة الاعتقاد العام، بأن النظم العربية جميعها استهلكت أدوارها ووجوهها، وأصبح وجودها عبئا استراتيجيا مخيفا على حقوق المواطنين العرب في العدل والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان،
ومن زاوية أخرى، نظر الكاتب أنور الهواري للمشهد، مركزا على التواجد الإيراني في سوريا والمنطقة، حيث تمتعت إيران بنفوذ إمبراطوري في الإقليم على مدى عشرين عاماً، تبدأ من سقوط حكم البعث في العراق 2003، وتنتهي بسقوط حلب وعديد من المدن السورية في يد المعارضة المسلحة في مطلع الشهر الأخير من 2024.
اقرأ: إخراج إيران من سوريا
ويري الهواري، أنه ومنذ اندلعت الثورة، لم يتردد نظام الأسد لحظة واحدة في تكتيك حمامات الدم واستراتيجية الإبادة، حالة خاصة جداً من قسوة الحكام ضد المحكومين، قسوة ليس لها حدود تقف عندها، من قتل إلى تهجير إلى تدمير للعمران، إلى تخريب لحضارة سوريا قديمها وحديثها إلى قطع كل سبيل، يمكن شقه للتفاوض والتفاهم والحلول الوسط.
ويتهم نظام الأسد، بأنه فقد كل بوصلة وطنية جامعة، كما فقد كل رؤية سياسية، تبرر بقاءه، أصبح كل شاغل النظام هو الدفاع عن وجوده وبقائه فقط، وثمن ذلك تخريب سوريا سواء بيد النظام ذاته، أو بيد داعمي النظام سواء روسيا أو إيران أو حزب الله، أو بيد المعارضة المسلحة ذاتها، أو بيد داعميها سواء من عرب النفط أو تركيا أو أمريكا أو فرنسا أو بريطانيا إلى آخر قائمة الأيادي الآثمة التي لم تتردد، ولم تتورع في تدمير واحدة من أزهى وأزهر وأبهى مراكز الحضارة الإنسانية في التاريخ.
وينتقل الكاتب والمحلل السياسي إلى مقاربة أخرى للمشهد، يحاول فيها أن يجيب عن السؤال الملغز، لماذا ترحب الشعوب بإسقاط الديكتاتوريات، سواء جاء السقوط بغزو أجنبي صريح أو غزو أجنبي مستتر أو بثورات شعبية بعضها حقيقي وأصيل، وبعضها يمتزج فيه ما هو وطني شريف، مع ما هو تدخل أجنبي من وراء ظهر الشعوب؟
اقرأ: الشرق الأوسط الكبير
ويعتقد الهواري، أنه يمكن رؤية مستقبل الشرق الأوسط الكبير في هذا المشهد:1- سقوط ديكتاتورية عربية، هزمت مواطنيها، ثم دمرت وطنها، ثم رهنت نفسها ووطنها للخارج، ثم سقطت بتخطيط وتمويل وتسليح من الخارج، لكن رحب به الداخل، وابتهج له الشعب على اختلاف مكوناته. 2- اكتمال نموذج أردوغان بعد مثابرة منه وصبر من كفلائه ورعاته وضامنية قريباً من ربع قرن؛ ليكون النموذج الإرشادي لديموقراطية مع علمانية مع إسلام متصالح مع الصهيونية وموال للغرب، وموكل من أمريكا رأساً برعاية شؤون التحول نحو الشرق الأوسط الكبير.
ويعود ليحلل المشهد من زاوية مختلفة، يركز فيها على كيف هرب الأسد، لم يدافع عنه واحد من شعبه، ولا واحد من جيشه، فقد ولاء الشعب، ثم فقد ولاء الجيش، بعد أن وضع الشعب والجيش في حرب أهلية لأكثر من اثني عشر عاماً، انتهت الحرب الأهلية بوطن مفكك، وشعب ممزق، واقتصاد مدمر.
اقرأ: الأسد ومكيافيللي
ويستعير الهواري ملاحظات عقلانية، قدمها نيكولا مكيافيلي؛ ليجيب عن سؤال هو: لماذا في اللحظة الحاسمة، ينظر الديكتاتور حوله؛ فيرى شعبه، لا يأسف عليه، بل يفرح بسقوطه، كما يرى جيشه، لا يدافع عنه، بل يتخلى عنه؟
صوت آخر ساهم في قراءة وتحليل المشهد، هو الكاتب والباحث د. عمرو الشوبكي، الذي قدم سؤالا ورؤية.
السؤال القلق كان عن إمكانية تجاوز اللحظة.
اقرأ: هل ستعبر سوريا المخاطر؟
واعتبر الشوبكي، أن سوريا نجحت في الخطوة الأولى، مثل كثير من تجارب التغيير العربية، وهي إسقاط النظام القائم، وبقيت أمام تحدي بناء نظام سياسي جديد في ظل إرث سابق من فشل تجارب التغيير العربية بمختلف أشكالها في بناء النظام البديل.
ويحكم بقسوة على نظام الأسد قائلا إنه: “حول قضايا الحفاظ على الدولة والجيش والمقاومة ومحاربة الإرهاب إلى متاجرة ومبرر للنهب وقمع الأبرياء؛ فسجن 300 ألف إنسان طوال حكمة، وهو أعلى رقم لمساجين سياسيين في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية”.
ويبدو متفائلا بـ”اجتماع زعيم هيئة تحرير الشام مع رئيس وزراء النظام السابق لتنسيق إدارة المرحلة الانتقالية، وهو مشهد لم نره في تجارب التغيير العربية السلمية أو المسلحة” التي كان شعارها اجتثاث النظام القديم.
ومن التساؤل إلى التأكيد على أهمية وضرورة المشاركة المصرية في تحولات الإقليم.
اقرأ: في ضرورة دعم الشعب السوري
وفي صلب الفكرة يقول: “الحقيقة أن التحولات حولنا في الإقليم والعالم تقول، إن هناك ترتيبات جديدة، ومصر لا زالت غير مشاركة فيها، ولو بمنطق حماية أمنها القومي وتحقيق حد أدنى من الحضور الإقليمي داخل محيطها العربي”.
ويعتبر أن غياب التفاعل المصري مع القادة الجدد في دمشق يحتاج إلى مراجعة خاصة، بعد أن شاهدنا زيارة الحليف الأول للنظام الجديد في سوريا، وهو وزير خارجية تركيا إلى دمشق، وبقي تقريبا ليوم كامل مع أحمد الشرع، واحتسوا الشاي في “جبل قيسون”.
بينما يقدم الباحث السياسي جمال طه، رؤية مختلفة، لا يعتبرها تناولا لحدث زلزل الشرق الأوسط، وحمل بذور تغيرات جوهرية في توازنات القوى بالمنطقة، وإنما محاولة لتجنب الغرق في فيضان تداعياته.
اقرأ: خطوط تحت حروف الإطاحة بالنظام السوري وتبوء الفصائل
ويرى طه، أن سوريا ضحية قيادات «موالاة» منعدمة الكفاءة شديدة الفساد؛ الجيش بعضه يدين بالولاء لإيران، والبعض الآخر لروسيا، والبعض الثالث مشغول بإنتاج وتصدير الكبتاجون.
بينما هو يعتقد أن تركيا أدارت عملية التغيير في سوريا، وتتحكم في توجيه الأوضاع عقب نجاحها، وذلك بالتنسيق مع الولايات المتحدة وإسرائيل، معتمدين على نفس الأدوات التي أنشأوها وأعدوها؛ لتنفيذ مخطط الفوضى الخلاقة منذ عام 2011، والذين جمعهم النظام وداعموه «روسيا وإيران» في إدلب؛ ليظلوا خطرا يبرر وجودهم، فاستعادوا بناء قوتهم الذاتية، وسد الثغرات حتى أنجزوا مهمتهم، لينشأ في الشرق الأوسط نظام حكم ثان للفصائل بعد أفغانستان، يلتزم بإسلام سياسي أعده خبراء بريطانيا في التعامل مع المنطقة.