وافقت لجنة الصحة بمجلس الشيوخ المصري على مشروع قانون المسئولية الطبية الجديد، والمقدم كالعادة من الحكومة، وعلى الرغم من الاعتراضات التي تقدمت بها نقابة الأطباء، وغيرها من النقابات العاملة في المجال الطبي لكل الجهات والمسئولين، وبرغم وعد وزير الصحة بمناقشة تلك الاعتراضات في لجنة الصحة بمجلس الشيوخ، إلا أنه قد تم إقرار ذلك المشروع كما هو، دون أي تغيير أو تحسين للصورة المقدم بها، ومن المتوقع كذلك، أن يتم إقراره في المناقشة العامة لمجلس الشيوخ؛ تمهيداً لطرحه على مجلس النواب لإقراره كذلك.
وأهم النقاط أو البنود التي يعترض عليها الأطباء والعاملون في المجال الطبي، ما ورد في باب العقوبات من ذلك القانون، فقد عاقب مشروع القانون في المادة (27)، بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تجاوز مائة ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، من تسبب من مقدمي الخدمة بخطأ طبي في وفاة متلقي الخدمة، وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنين وغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه، ولا تجاوز خمسمائة ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، إذا وقعت الجريمة نتيجة خطأ طبي جسيم، أو كان مقدم الخدمة متعاطيا مُسكراً أو مخدِراً عند ارتكابه الخطأ الطبي أو نكل وقت الواقعة عن مساعدة من وقعت عليه الجريمة أو عن طلب المساعدة له مع تمكنه من ذلك، وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على سبع سنين، إذا نشأ عن الخطأ الطبي وفاة أكثر من ثلاثة أشخاص، فإذا توافر ظرف آخر من الظروف الواردة في الفقرة السابقة، كانت العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على عشر سنين.
كما جاء نص المادة (28)، على أن يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تجاوز خمسين ألف جنيهاً أو بإحدى هاتين العقوبتين من تسبب من مقدمي الخدمة بخطأ طبي في جرح متلقي الخدمة أو إيذائه.
ذلك بخلاف ما قررته المادة 29 من هذا القانون بإقرارها الحبس الاحتياطي للأطباء في هذه الجرائم، والتغيير الوحيد هو مجرد تغيير شكلي، مؤداه أن يصدر قرار الحبس ومدته وتمديده من درجة رئيس نيابة على الأقل.
ولكن بمناقشة تلك النصوص، والتي تمثل أهم نقاط اعتراض العاملين في المجال الطبي، والذين يشملهم ذلك القانون، نستطيع أن نخلص منها، إلى أن المشرع على الرغم من الترويج الإعلامي في مشروع قانون الإجراءات الجنائية لقصر الحبس الاحتياطي، والتضييق في نطاقه واعتباراته، إلا أنه قد أتى به في ذلك القانون، دونما أي تحديد لمدد يقف عندها، وهو الأمر الذي يجعله مصلتاً على رقاب الأطباء والعاملين في المجال الطبي، وهو الأمر الذي قد يخل بطبيعة الخدمة الطبية، علاوة على تضييقه في نطاق الحريات الشخصية بشكل عام.
أما إذا تحدثنا عن العقوبات الواردة بالمادتين 27، 28 من ذلك المشروع، فنجد ذات الفلسفة العقابية التي يعتمدها المشرع المصري منذ زمن طويل، دون أي تغيير، والمتلخصة في التشدد العقابي، أو إقرار الغرامات. ذلك على الرغم من كون السياسات الجنائية الحديثة تسعى إلى التضييق في نطاق العقوبات السالبة للحرية على أضيق مدى ممكن، والتوجه نحو استبدال تلك العقوبات بالعديد من البدائل الاجتماعية الحديثة، وذلك بشكل عام في موضوع العقوبات السالبة للحرية.
أما بخصوص الأطباء وغيرهم من العاملين في المجال الطبي، فإن إقرار مثل هذا القانون بصيغته الحالية، لا يضمن جودة الخدمة المقدمة، بقدر ما يضمن المزيد من التخوف المهني، وهو ما قد يدفع الأطباء، بحسب ما وصفه الدكتور إبراهيم الزيات، عضو مجلس نقابة الأطباء، في حديثه المنشور على موقع مصراوي بتاريخ الاثنين 23/ 12/ 2024، أن يلجأ الأطباء إلى ما صفه بالطب الدفاعي، ويُعرف الطب الدفاعي، بأنه طلب مزيد من الاختبارات والفحوصات، وتجنيب المرضى الإجراءات عالية الخطورة التي تكون لازمة في كثير من الأحيان.
وإذ أن المجتمع المصري يمر بظروف اقتصادية، لا تساعد في كثير من الأحوال لمواجهة ما يسمى بالطب الدفاعي، كما أن الدولة بمؤسساتها بدأت في التخلي عن إقرار تحملها لحق المواطنين في الصحة والعلاج، وبات العلاج أمرا لا تستطيع تحمل كلفته العديد من الأسر المصرية، في ظل حالة من التردي المستمر للأحوال الاقتصادية، كما أن اللجوء لهذا النوع من الإجراءات العلاجية ذات الكلفة العالية، قد يصاحبه تأخر في تلقي العلاج السريع، في ظل إجراءات قد يتبعها الأطباء، بما يضمن لهم عدم الوقوع تحت طائلة هذه النصوص. ذلك جميعه بخلاف ما يعانيه المجتمع الصحي المصري من هجرة متوالية للأطباء؛ بحثاً عن سبل عيش كريمة أو تطورات علمية جديدة، أو ما إلى ذلك من أمور تحقق لهذه الفئة منافع ذاتية.
الأمر جد خطير، والموضوع ليس بهين، والنمط الذي تسير عليه السلطة التشريعية منذ بداية انتخابها حتى الفصل الأخير من حياتها النيابية، والذي نحن بصدده، إنما يضر الحياة النيابية المصرية بشكل كامل، في ظل تغول مستمر من السلطة التنفيذية على مقدرات مجلس النواب دونما هوادة، وإذا ما أعملنا ذلك على ما نحن بصدده من قانون المسئولية الطبية، فهل هناك من جديد يُنتظر حال نقل القانون إلى مجلس النواب، فعلى الرغم من كون هذا المجلس بتشكيله الحالي يضم العديد من الأطباء، إلا أن المحصلة غير مبشرة، من حيث ما تم في بداية النقاش، من مجلس الشيوخ.
وبرغم كثرة البيانات والخطابات السياسية التي تتداولها مواقع الإعلام، والتي كان آخرها بيان رئاسة مجلس الوزراء الصادر يوم الاثنين 23/ 12 الماضي، والذي يشيد بمضمون القانون، بحسب ما ورد به من تعريفات، وتحديد لجان ذات مسئوليات محددة في القانون، إلا أن هذا البيان لم يتطرق إلى باب العقوبات، وما به من اعتراضات توجه بها الأطباء.
إلا أنني لا بد وأن أوجه الحديث إلى كل من بيده الحل والعقد في هذا الأمر، بأن يتم مراجعة نصوص هذا التشريع من قبل نقابة الأطباء على أقل تقدير، بخلاف النقابات الأخرى الممثلة للعاملين في المجال الطبي، وأن توضع ملاحظاتهم محل الاعتبار، حرصاً منا على مستقبل المهن الطبية، وبالتالي حرصاً منا على مستوى الخدمة الصحية المقدمة للمواطنين، إذ أن كفالة الحق في الصحة لا يمثل ترفاً، إذ بخلاف كونه حق دستوري، إلا أنه لا تحيا الدول دون تحقيقه وضمان أعلى جودة ممكنة للخدمات الصحية، حتى لا يظل حالنا كما هو أو يزداد سواء وفقراً، ويضاف إلى ذلك مرض، وعدم قدرة على تحقق الرعاية الصحية.