قبل ساعات من طي صفحة العام 2024، وتحديدا في 30 ديسمبر الماضي، دشنت الحياة السياسية المصرية مولد حزب جديد، هو حزب الجبهة الوطنية. الحزب الذي ولد بملعقة ذهب في فمه، يبدو أنه- مع الفارق في الدرجة- يخوض ذات التجربة التي خاضها النظام الحزبي في مصر منتصف 2014، عندما أسست أجهزة أمنية حزب مستقبل وطن، يومها قاد هذا الحزب الانتخابات البرلمانية مرتين، وحشد وشحذ الجماهير إبان الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لدعم المشاركة، وكذلك التظاهرات التي دعت لها السلطة أكثر من مرة.
اليوم يأتي حزب جديد؛ لينافس مستقبل وطن في خدمة القيادة السياسية، أو بالأحرى يحل محله. فقادته أعلنوا في أكثر من مناسبة أهدافهم الضحلة، وهي أنهم مجرد بيت خبرة، وأنهم لا يسعون للسلطة، وأنهم قادمون من كل الأطياف. هذه الأوصاف الثلاثة تنفي بشكل كامل غرض قيام أي حزب سياسي، كتلك الأحزاب المتعارف عليها في النظم السياسية المتمدينة. فلا يوجد حزب وظيفته مجرد أنه بيت خبرة، يقدم النصيحة حال طلبها، ولا يوجد حزب لا يسعى إلى السلطة، وإلا أصبح مجرد جماعة ضغط، ولا يوجد حزب غرضه جمع أكبر عدد من كل أطياف المجتمع؛ لأن ذلك ينفي فئة الحزبية في جماعة سياسية لها خصوصية، وأيديولوجية تميزها عن باقي الجماعات. لذلك كله يستطيع المرء بملء فيه، أن يقول إننا اليوم أمام تأسيس صفر جديد، وسط عشرات الأصفار من الأحزاب القائمة.
إن ما نشاهده اليوم، كان من المهم أن يحدث منذ زمن، لكن كما تقول الحكمة “إن تأتي متأخرا أفضل من أن لا تأتي”. لكن ما كان أهم من القدوم المتأخر، هو أن يكون هذا الكيان مُشكلا ثقلا جديدا في الحياة السياسية المصرية. بعبارة أخرى، كان هذا الكيان سيلقى ترحابا وشعبية جارفة لو كان:-
له امتداد واسع في الشارع، بمعنى أن عضويته مفتوحة للجميع، ويُقبل عليه الناس بشكل كبير. فهو يُعبر عن طبقة أو فئة محددة، يُستشعر أنها ترتبط بأغلبية المواطنين المصريين. هذه الطبقة خارجة من بطن المجتمع، وذات صلة وثيقة بالطبقتين المتوسطة والفقيرة من الناس.
يرتبط بما سبق، أن يكون الحزب اليافع يأتي من داخل المحليات أو من جماعة وفئة من الأعضاء ممثلة في مجلس النواب (حال وجود مجلس تأسس بالفعل عبر انتخابات حرة ونزيهة)، حزب يرتبط بالشارع نفسه، وعلى صلة وثيقة بمخاض آلامه وأوجاعه، نبع من مقاهيه وأنديته ودواوير قراه، وهذا هو بالطبع حال نشأة الأحزاب في النظم الديمقراطية العتيقة في أوروبا للمرة الأولى في القرن الـ18، والتي عبرت عن فئات المجتمع وطبقاته.
لا يتحتم بل من غير المفضل، ألا يأتي الكيان الجديد بقادة معروفين؛ بسبب مواقعهم أو سلطاتهم الرسمية الحالية والسابقة، بل بقادة أفرخهم الشارع ذاته. بمعنى أن قيادات الحزب لا يمكن أن تكون فقط من أصحاب الياقات البيضاء، إلا لو كان لهؤلاء شعبية جارفة في محيطهم الاجتماعي، من أصحاب اليد النظيفة التي تتسم بالعفة والنزاهة وخدمة المواطنين.
يرتبط بما سبق مباشرة، أن تكون قيادات الحزب الناشئ، ممن هم غير مدانين بجرائم تمس أمن الدولة والشعب، بل وكل إنسان، شخصيات تتسم بطهارة اليد، لم يسبق لها أن خاضت في دماء الناس، أو تاجرت بمعاناة الآخرين الذين مردوا على الاحتلال والقهر والجوع والمعاناة من الغير.
ومما لا شك فيه، أن وجود هذا الكيان السوي يتحتم ألا يرتبط بنفوذ أو مناصب قائمة، أو علاقات زبائنية غرضها التخديم على مصالح سلطة أو قيادة، وإلا كنا أمام كيان مهترئ لا يهدف لاحترام عقلية وذهنية الناس، كيان ولد سقطا منذ لحظة خروجه إلى الحياة.
من المهم، أن يكون الكيان الجديد منتشر جغرافيا، بسبب وجود امتداد قروي ومحلي واسع وحقيقي وغير زبائني. هنا سيكون لهذا الكيان عضويات حقيقية. لعلنا هنا نتذكر قول السادات منتقدا ممدوح سالم؛ بسبب فشل حزب مصر عام 1977؛ لأنه “لم يستمع إلى نصيحته، ويبدأ تشكيلات حزبية من القرى، ويستعين بالعائلات القديمة والشخصيات القيادية، ويُكون الخلايا الحزبية على نمط جماعة الإخوان المسلمين.. “موسى صبري، السادات الحقيقة والأسطورة، ط2، ص628”.
ولأن أحد أسباب الفشل في أغلب الأحزاب السياسية المصرية القائمة، ضعف نظام الحوكمة المالية، فإن وجود نظام حوكمة نابع من لائحة مالية للحزب، تتسم بالعلانية والشفافية ومهنية المحاسبة المالية، يعتبر من مقومات الحزب الساعي للنجاح ضمن المنظومة الحزبية.
في علاقة السلطة بالأحزاب والنظام الحزبي القائم، ولأن القيادة السياسية أو بالأحرى رأس السلطة التنفيذية لا تنتمي دستوريا وجبرا لأي كيان حزبي رئاسي أو غير رئاسي، فمن المهم، أن تكون تلك القيادة السياسية على مسافة واحدة من الأحزاب، وألا تكون أية مؤسسة أمنية أو غير أمنية هي الراعية الرسمية للكيان الحزبي اليافع. بعبارة أخرى، يمتنع منعا باتا، أن تخصص سواء بشكل رسمي أو واقعي أية مخصصات قومية لخدمة حزب دون آخر. لذلك ما كنا نشاهده من وجود حزب تُفتح له القاعات الكبرى، وتُفرش له السجاجيد الحمراء، وتُعلق على جدران المؤسسات الرسمية دعايته، ويقوم الإعلام القومي بالترويج له في ظل غياب نظام للتغطية المرتبطة بتكافؤ حقيقي للفرص بين الأحزاب، كل ذلك يفضي لنتائج عكسية بشأن الجماهيرية المفتعلة، والنزاهة والشفافية غير القائمة.
يرتبط بما سبق، أن يعمل الحزب الجديد في بيئة ديمقراطية، بمعنى أن يكون له هيكل رئاسي على المستويين القومي والمحلي مُنتخب بشفافية، وأن تُصنع قراراته بشكل ديمقراطي. إذ من غير الملائم، أن يُخاطب السلطة بشعارات ديمقراطية من ناحية (هذا أن كان قد جَرُؤ وخاطبها أصلا)، وترزح هياكله في بيئة سلطوية دكتاتورية من ناحية مقابلة.
يتصل بالبيئة الديمقراطية الداخلية للتنظيم المزمع تأسيس حزب له بيئة ديمقراطية خارجية مباشرة، وهي أن يأتمر الحزب بأوامر أعضائه فحسب. وأن يكون سبب ريادته في المجتمع والدولة نابع من النزاهة والشفافية عبر نظام تمثيلي ديمقراطي. هنا نذكر أنه لا معنى، أن يُوصف الحزب بالريادة، وقد انتُخب أعضاؤه في البرلمان عبر تزوير إرادة الناخبين، من خلال نظام الكتلة الحزبية، أو ما دُرِج على تسميته القائمة المطلقة، المهجور عالميا، وهو نظام يعطي الحزب صاحب القائمة الحاصلة على 51% من أصوات الناخبين والمقترعين في انتخابات مجلس النواب، 100% من المقاعد.
فيما يتصل بكل ما سبق، تبدو البيئة الديمقراطية الخارجية غير المباشرة لعمل الأحزاب مهمة للغاية، بل هي الأهم وسط كل الاهتمامات السابقة، ويُقصد بها ذلك الهم الأكبر المسمى بفتح المجال العام، أو مقرطة الحياة السياسية في الدولة والمجتمع بأسرهما. هنا يجب التأكيد على أن وجود قضاء مستقل لا تلعب السلطة أدنى دور في تعيين رؤساء هيئاته ولا جهاته، حتى ولو بحكم الدستور، وإعلام قوي لا تُهيمن عليه شركة متحدة أو غير متحدة، ومجتمع مدني رائد وقادر على أن يرفع مع السلطة عبء التنمية الاجتماعية، وسن القوانين الديمقراطية التي بُح صوت الدستور بشأنها دون جدوى، وعلى رأسها العدالة الانتقالية ومنع ندب القضاة وانتخاب المحليات ومنع التمييز، كلها وغيرها هي السبيل لبناء دولة مدنية حرة، لا عسكرية ولا إخوانية.
في ظل تلك المعطيات فقط، يمكن الحديث عن بناء حزبي قوي وجديد، لا ينشأ فيه حزب محدد بذاته، بل هو توطأة لتأسيس تعددية حزبية رابعة، تنتهي بموجبها التجربة الثالثة التي بدأت في 1/ 11 /1976 واستمرت حتى اليوم، والتي دأب الباحثون على نعتها بالتعددية الحزبية المقيدة، وهي من القيد براء، لكونها منذ وجودها مُكبلة بغلظة، كبل أماتها فأقبرها، لكونها مغطاة بلباس السلطوية والشمولية.