لا يتوقف الجدل حول واقع الحياة الحزبية في مصر، سواء ارتبط ذلك بظهور وافد حزبي جديد أو بنقاش حول دور الأحزاب في البرلمان، وظل هناك تقدير سائد، بأن الأحزاب ضعيفة ودورها غير مؤثر في الحياة السياسية، ولتصحيح هذا الوضع، فإن الأمر يتطلب ببساطة العودة لنصوص الدستور وتوسيع الهامش المسموح لحركة الأحزاب.
والحقيقة أن الفارق الذي يمكن أن يثري الحياة الحزبية لن يكون بإضافة مزيد من الأحزاب، رغم أنه بالطبع حق مشروع لأي فرد المشاركة في تأسيس حزب جديد، حتى لو أصبح عددها ٨٨ حزبا بدلا من ٨٧، إنما بتفعيل دورها في الحياة السياسية، بصورة تؤدي إلى أن يصبح عددها لا يتجاوز أصابع اليدين بدون قرار إداري، إنما نتيجة تفاعلات الواقع السياسي واندماج الأحزاب الأقرب لبعضها فكريا وسياسيا في حزب أو تكتل واحد.
والحقيقة أن قيام الأحزاب بالتحالف فيما بينها لن يتم، إلا إذا كان هناك عائد سياسي وراء ذلك بمعنى أن اندماج الأحزاب في حزب يساري أو ليبرالي أو محافظ كبير، لن يتم بقرار أو توجيه إداري أو أمني، إنما سيتم حين ستشعر هذه الأحزاب، أن مشاركتها في اختيار الحكومة أو في إسقاطها متوقف على وجود أحزاب كبيرة وقوية، وهو أمر حتى اللحظة غير موجود في الواقع.
لا زلت أذكر أن المادة التي اقترحتها في لجنة الخمسين لكتابة دستور ٢٠١٤ حول حق رئيس الجمهورية في اختيار وزراء السيادة الأربعة (الدفاع والداخلية والخارجية والعدل)، واعتمدتها اللجنة، وأصبحت نصا دستوريا، كانت تقر بأن واقع الأحزاب وطبيعة النظام الحالي لا تسمح بأن يكون اختيار كل الوزراء عن طريق الأحزاب، إنما فقط وزراء المجموعة الاقتصادية والخدمات من صحة وتعليم ومواصلات، أما وزراء السيادة الأربعة فيختارهم رئيس الجمهورية من داخل الدولة ومن خارج حسابات الأحزاب السياسية.
إن فلسفة هذه المادة كانت تقوم على أن الأحزاب والقوي السياسية ستدخل في شراكة مع الدولة لاختيار الحكومة، وكان هناك وعي بطبيعة المراحل الانتقالية في حياة المجتمع، والظروف التي أدت لضعف الأحزاب، وبالتالي كانت فكرة الشراكة بينها وبين الدولة حاضرة منذ كتابة الدستور، رغم اختلاف البعض مع هذه المادة، ممن كانوا يرون ضرورة تحول مصر نحو النظام البرلماني، ولكنهم في النهاية كانوا أقلية، وخرجت مادة دستورية متوازنة.
ومع ذلك لم تحترم الدولة هذه المادة وظل اختيار الحكومة والوزراء من داخل مؤسسات الدولة أو القطاع الخاص وليس لهم علاقة بالأحزاب، التي لم يقف الأمر عند عدم مشاركتها في تقديم كوادر تتولى مناصب وزارية، إنما توقف دورها على موافقة الأحزاب الممثلة داخل البرلمان على ترشيحات الرئاسة والدولة لوزراء الحكومة.
الحقيقة، أن مصر تحتاج إلى شراكة بين مؤسسات الدولة والمجتمع بمعناه الواسع الذي يشمل ليس فقط المجتمع السياسي، إنما أيضا النقابي والمهني، وفي نفس الوقت لكي تستطيع الأحزاب أن تبني كوادر حقيقية قادرة على الحكم والإدارة، فلا بد أن يسمح لها بالحركة في الشارع، وأن يشعر المنضمون إليها بجدوى الانضمام لأحزاب؛ لأنها وارد أن تحكم لا أن تعارض طول الوقت، أو تؤيد مدى الحياة، وأن يشارك شبابها في انتخابات المحليات التي تمثل فرصة مهمة لصقل مهارات عشرات الآلاف من شباب الأحزاب في العمل وسط الجماهير.
إن تعزيز دور الأحزاب في بلد مثل مصر سيعني الاتفاق على القواعد الحاكمة لعملية سياسية غير مصنعة مسبقا، تعزز من دور الوسيط السياسي الحزبي والأهلي، من نقابات وروابط شعبية ومجتمع مدني، وفي حال إضعاف هذه الوسائط يصبح هناك خطر كبير، أن تقفز في وجوه الجميع نتائج “تفاعلات غير مرئية” تجري في بطن المجتمع، ولا يستطيع أحد أن يتوقع مسارها أو يرشده، لأن هذا هو دور الأحزاب التي أُضعِفت، والصحافة التي قُيدت.
إن هذه الوسائط قادرة على أن تحول “غير المرئي” إلى “مرئي”، وتصبح همسات البعض أو غضب البعض الآخر له مسار علني وشرعي، تعبر عنه الأحزاب الحقيقية والتوجهات المختلفة وصراع الأفكار والبرامج السياسية الذي يجعل هناك نقاشا عاما حول قضايا تهم المواطن، وتعمل على حل أزماته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومواجهة الكلام السطحي ولغة الشتائم والفضائح والترويج للخرافة بكلام علمي يهم الناس.
تحتاج مصر لمراجعة الإطار الذي حكم حركة البلاد عقب التهديدات الوجودية التي تعرض لها الشعب في ٢٠١٣ من حوادث عنف وإرهاب، وجعل الحكم وجانب من الرأي العام، يبرر القيود التي فرضت على المجال العام، وهمشت من دور الأحزاب، بل ومن دور السياسة نفسها، وبات مطلوب الآن البحث عن نقطة انطلاق آمنة للعمل السياسي، ستبدأ بإعطاء مساحة حقيقية للقوى الحزبية المدنية للتحرك المستقل وتفعيل المادة الدستورية التي أسست لشراكة بين الأحزاب ومؤسسات الدولة.
إصلاح العملية السياسية أمر مفيد للجميع: الشعب والأحزاب السياسية والحكم، بشرط أن تكون هناك ضمانة لاستقلالية عمل الأحزاب عن أجهزة الدولة، وأن يكون سقف تحركها هو الدستور والقانون، وأن هندسة العملية الحزبية بكيانات معدة سلفا لن يفيد أحدا، لأنه يؤسس لمسار يولد بعيوب هيكلية فاقدة للمصداقية، ويزيد من أعداد المنسحبين من العمل السياسي والمحبطين من عدم جدواه، وهي كلها مشاكل موجودة في الواقع، لن يحلها تأسيس أي حزب “جديد قديم”.