في جلسة تمهيدية استبقت أعمال ما أطلق عليه “الحوار الوطني” مانع رؤساء أحزاب “الموالاة” في أي اعتراف، بأن هناك أزمة سياسية تستدعي توافقا وطنيا واسعا لتجاوزها.
إذا لم تكن هناك أزمة، فلماذا الحوار؟!
كان ذلك سؤالا بلا جواب.
الاعتراف بالأزمة من ضرورات تجاوزها بإحداث تغييرات جوهرية في البيئة العامة المسمومة.
الإنكار فعل تهرب من استحقاقات التغيير.
هكذا فشل ذلك الحوار مقدَما في إنجاز أي فارق مع ما قبله.
أغرب ما قيل عن إنشاء حزب سلطة جديد، تحت رعاية “إبراهيم العرجاني” رئيس اتحاد القبائل العربية!، إنه يعمل على “إعادة بناء الحياة السياسية”، دون أدنى سند يتجاوز إطلاق الكلام في الهواء.
الأوضاع القلقة في مصر تحت ضغط الأزمة الاجتماعية؛ خشية انفجارها ونذر الخطر الإقليمية الماثلة، تستدعي المصارحة بالحقائق لا الهزل في مقام الجد.
الاعتراف المراوغ بالأزمة التفاف آخر على طبيعتها وحجمها، وما قد يترتب عليها من تداعيات، تضرب صميم الاستقرار والأمن وأية رهانات على التغيير السلمي من الداخل.
فيما قاله مؤسسو الحزب، إنه “لا موالاة” و”لا معارضة”، كما لا يستهدف الوصول إلى السلطة الآن، لكن ربما في وقت لاحق، رغم أن حركته كلها وجمع توقيعات تأسيسه تجري بحمايتها!
بدا الحزب، الذي أطلق عليه “الجبهة الوطنية”، فقيرا في أفكاره وتصوراته ومرتبكا في نظرته إلى نفسه.
جوهر أزمة الحياة السياسية، الحزبية بالذات، أنها مقيدة ومشلولة، وأحوالها لا تتوافق مع الشرعية الدستورية، التي تنص في مادتها الخامسة: “يقوم النظام السياسي على أساس التعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمي للسلطة، والفصل بين السلطات والتوازن بينها، وتلازم المسئولية مع السلطة واحترام حقوق الإنسان وحرياته على الوجه المبين بالدستور”.
هنا جوهر الأزمة السياسية.
إذا لم يكن هناك احترام للدستور والحريات العامة، فلا معنى لألعاب الهواء وإضاعة الوقت، فيما لا يجدي وعواقبه مخيفة على مستقبل البلد في لحظة خطرة وقلقة.
أسوأ ما ينطوي عليه إعلان حزب السلطة الجديد، أنه يهدر دروس التاريخ كلها دفعة واحدة.
إحدى الفرضيات المتداولة، التي أُرجِع إليها تقويض مشروع (23) يوليو بالانقلاب عليه من داخله، أنه لم يكن هناك حزب سياسي حقيقي يحفظ ما تحقق من إنجاز.
الفرضية تحتاج مراجعة.
مشكلة يوليو في طبيعة النظام وضيق بنيته عن احتواء التغيرات الاجتماعية التي أحدثتها.
طبيعة النظام قبل طبيعة الحزب.
هذه حقيقة ثبتت صحتها بالنظر إلى ما آلت إليه الثورتان السوفيتية والصينية.
لم يمنع وجود حزب شيوعي قاد الثورة السوفيتية عام (١٩١٧)، وتمترس في السلطة حتى (١٩٨٩) بلا منازع، من انهيار الاتحاد السوفيتي.
البقاء في السلطة لفترات طويلة، وتمركزها في مجموعات ضيقة على رأسها أمين عام الحزب الشيوعي أصابها بداء الشيخوخة السياسية والتنظيمية، ودبت عناصر التحلل في بنيتها.
عندما حاول آخر رؤسائها “ميخائيل جورباتشوف” باسم “البيروسترويكا” إعادة بناء الدولة، تفككت بالكامل.
بغض النظر عن صحة الأفكار التي طرحها والطريقة التي اتبعها، فإن عوامل التفكك كانت قد استحكمت، ولم يمكن تجنبها، حتى بمحاولة الانقلاب الفاشل عليه.
كما أن الحزب الشيوعي الصيني يختلف الآن، مع ما كان عليه أيام “ماو تسي تونج”، من حيث الأفكار والتوجهات.
أسس “ماو” للصين الحديثة، لكن أفكاره لم تعد تحكمها، حيث اتبعت سياسة الانفتاح الاقتصادي الاجتماعي وطورتها في إطار مشروع الدولة بعد رحيله بعامين.
بصورة ثالثة، تقوضت هيبة “جبهة التحرير الوطني الجزائري”، التي قادت حرب الاستقلال واستشهد فيها مليون ونصف المليون شهيد، في عين شعبها، حتى إنها خسرت بفداحة الانتخابات النيابية أمام “جبهة الإنقاذ الإسلامية” عام (1991).
بعدها حدث ما حدث من انقلاب عسكري وحروب إرهاب امتدت لعشر سنوات.
لا توجد ثورات خالدة ولا أحزاب أبدية.
هذه حقيقة تستدعي البحث في النظام قبل الحزب.
الحزب، أي حزب أيًا كانت طبيعة نشأته ودرجة قوته، جزء من النظام وليس النظام نفسه.
تبدت ثلاث فرص أمام “جمال عبد الناصر” لبناء نظام أوسع وأقوى وقادر على حمل مشروعه وتجديده وفق احتياجات العصور المتغيرة.
الأولى- بعد حرب السويس (1956)، فلم يكن هناك شك، أن حزبًا يمثل الثورة سوف يكتسح أية انتخابات ديمقراطية وشفافة بقدر الشعبية الاستثنائية، التي حازها “عبد الناصر”.
لم تكن تلك الفرصة غائبة عن تفكيره، غير أن خشيته من عودة الحياة الحزبية على صورتها القديمة بكل حمولاتها الطبقية القديمة منعته من التحرك في هذا الاتجاه.
والثانية- تبدت أثناء الوحدة المصرية– السورية (1958- 1961) لبناء جبهة واسعة على أساس تعددي.
أدى التنظيم السياسي الواحد “الاتحاد القومي” إلى إفقار التجربة من تعدديتها في إطار مشروع الوحدة.
نشأت صراعات مكتومة ومعلنة مع قيادات وكوادر حزب “البعث”، الذي حل نفسه رسميًا لا فعليًا.
أُجهِضت الوحدة من داخلها، بقدر ما أُجهِضت بالتآمر عليها.
والثالثةـ بعد الهزيمة العسكرية في يونيو (١٩٦٧)، وما تبناه بيان (٣٠) مارس (1968) من دعوات إلى المجتمع المفتوح ودولة المؤسسات، بدا ممكنًا إقرار التعددية في بنية النظام السياسي.
“عبد الناصر” تحدث موسعًا في هذا الاتجاه، غير أن أولوية إعادة بناء الجيش واستعادة الأراضي المحتلة بقوة السلاح.. ثم رحيل “عبد الناصر” على نحو مفاجئ في الثانية والخمسين من عمره، دفع الأمور في اتجاه آخر، أخذ من التعددية اسمها لا قواعدها وأحالها إلى ما يشبه “المسخ”، وهو أبعد ما يكون عن الجدية التي تحدث بها بعد هزيمة “يونيو”.
في محاضر مسجلة دعا إلى مجتمع سياسي مفتوح و”دولة المؤسسات والقانون” والقضاء على مراكز القوى داخل النظام، ودخل إلى ما يشبه المحاكمة لنظامه كله.
المثير في تلك المحاضر، أن أغلبية قيادات التنظيم السياسي الواحد لم يكونوا في صف الرئيس، عارضوا دعوته للتعددية السياسية، بداعي أن هناك خطورة من تعديل النظام قبل إزالة آثار العدوان، أو أنه يؤدي إلى تفسخ البلد في هذا الظرف بواسطة المعارضة، لأن “شعبنا بخير ويثق في هذا الرجل”- كما قال “أنور السادات” في أحد الاجتماعات المسجلة بانفعال كبير، مشيرًا إلى “عبد الناصر”.
لم يصف “عبد الناصر” نفسه يوما بأنه ليبرالي، كان رجلا جادا يقصد تماما ما يقول، يصدق نفسه ويصدقه شعبه، اكتسب شعبيته الثورية من التحولات الاجتماعية العميقة التي أحدثها في بنية المجتمع المصري.
نسبة أصل الأزمة إلى مواريث يوليو وحدها كذب على التاريخ.
مصر في أزمة حقيقية، تحتاج إلى بيئة سياسية جديدة تمكنها من التماسك والتقدم إلى المستقبل بثقة، لا إنشاء أحزاب هشة مصيرها التبخر في الهواء، إذا ما هبت أية رياح معاكسة.