نهاية ديسمبر الماضي، كان ميلاد حزب جديد هو حزب الجبهة الوطنية، هذا الحزب هو الجالس الجديد على “حجر السلطة”. فمهما قيل من تبريرات أو مسوغات أو أسباب، لن يقتنع الناس، بأن ما يؤسس هو حزب نشأ من أسفل إلى أعلى. مظهر واحد من المظاهر التالية، يكفي بألا تنطلي حيادية الدولة هنا. فرش السجاجيد الحمراء للحزب، والاجتماع في العاصمة الإدارية، واستضافة نادي الجيش الماسي لحفل التدشين، واستضافة رجل الدولة البازغ العرجاني لعديد من اجتماعات الحزب تحت التأسيس، وانضمام ثلة معتبرة من رجال الدولة للمؤسسين، كلها مظاهر يكفي واحد منها فقط لمعرفة حقيقة ما حدث.

الحزب الجديد كغيره من غالبية التنظيمات في المنظومة الحزبية الثالثة المؤسسة في 11/ 11/ 1976، لا يختلف سوى في الدرجة عن أحزاب السلطة التي مردت على تأسيسها منذ ثورة 1952. هو حزب موالاة بامتياز، مهما قال مؤسسوه، عن إنهم أناس يخترعون جديدا في أدبيات الأحزاب السياسية، وتجاربها العالمية في النظم العتيقة والمتمدينة في أوروبا منذ القرن الـ18. قالوا: نحن بيت خبرة، نحن لا معارضة ولا موالاة، انسوا الأنماط القديمة في تأسيس الأحزاب. كل ما سبق وما شابه هو كلام قيل لتبرير المولد الجديد للحزب اليافع، وهو كلام يحطم النظريات؛ ليؤسس ويبتكر نظرية جديدة، عجز جهابذة الغرب ومنظروه أن يأتوا بمثلها!!.

واحد من أكثر الأمور التي لا يمكن لعاقل أن يصدقها، هو أن نكون أمام بناء حزبي جديد، ونحن في إطار ذات المجال العام الخالي من المقرطة، والمفرط في الشمولية. فالأحزاب كيانات تقوم وتنتعش في ظل مناخ معتبر من حرية الرأي والتعبير، وحرية الكلمة والتظاهر السلمي، ومدنية الدولة، وحق الجميع في الحياة والتنقل، وسرية المراسلات، وحرية الإعلام، واستقلال القضاء، ووقف الحبس الاحتياطي المادي (وضع غير المدانين في السجون على سبيل الاحتراز)، ووقف المعاملة الحاطة بالكرامة، وحق الترشيح والاقتراع بنزاهة وشفافية، وغيرها من أمور. بدون تلك البيئة الخارجية للأحزاب، لن تقوم لأي نظام حزبي قائمة، ولن تفلح الأحزاب في لعب أي دور لها في الحياة العامة.

بعبارة أخرى، وربما أكثر وضوحا، أن ما ينفي قيام الأحزاب بدورها المتعارف عليه في ظل البيئة المقيدة لكافة الأنشطة العامة، هو نفسه السؤال الاستنكاري التالي: كيف للأحزاب أن تلعب دورا متميزا كغيرها في النظم الديمقراطية العتيقة، وهي محبوسة حول جدرانها، لا تستطيع حشد الناس وتعبئتهم، وتُحجب صحفها، وتُصادر مواقعها الإلكترونية، وتُمنع من النزول في دوائر العمل والعمال والجامعات، ويُوقف أعضاؤها، وتُمنع من الظهور في وسائل الإعلام، ويُسن لها قوانين انتخابية كالقائمة المطلقة التي تُزور إرادة الناخبين بمنح 49% من الأصوات للقائمة التي حصلت على51%!!! عندما نصل إلى ما نحن نتحدث عنه، نكون بالفعل أمام نظام حزبي جديد ومتمدين. هذا النظام المأمول لا يعني على الإطلاق العبث بالدولة المصرية وأمنها، بل على العكس هو الجالب لكل استقرار ورفعة، خاصة في ذلك الوقت وفي تلك المنطقة المراد تشتيت وشرذمة شعوبها، لصالح الهيمنة الصهيونية. بمعنى آخر، أن دعاة التقييد دوما ما يبررون تصرفاتهم بالخوف على استقرار الدولة وأمنها، فيوغلوا في التشدد عساه أن يكون أملا في التماسك والوحدة، ويمنحوا لأنفسهم حق احتكار صكوك الوطنية والخوف على سلامة الوطن. رغم أن العكس هو الصحيح، فالتشدد والتعصب يُولد تعصبا مقابلا، ويُولد كراهية وأحقاد مؤجلة، ورغبة ممن طالهم القهر في رده بعد حين.  

ما من شك أن الدولة المصرية- وهي كما يتضح من مسلكها- لها رغبة كبيرة في التدخل في الشأن الحزبي. لا بأس. فهي يمكن أن تلعب دورا إيجابيا في الوصول إلى هذا الوضع الراقي الذي سبق الحديث عنه. فهي أولا:

  1. مطالبة بإصلاح البيئة السياسية الخارجية لعمل الأحزاب، سابق الإشارة إلى شروطها، والمتصلة بفتح المجال العام. ورغم أن إجراءات وخطوات هذا الإصلاح تتسم بالكثرة والتعدد. فإن من المهم ألا تفضي تلك الإجراءات أو هذه الخطوات إلى القضاء على المبدأ أو تكبيل إلتزامات الدولة تجاه الناس، لصالح قيام الناس بواجباتهم تجاه الدولة. بعبارة أخرى، هناك أهمية كبرى للتوازن بين إلتزامات الدولة تجاه الناس وبين واجبات المجتمع تجاهها.
  2. التدخل الإيجابي في مناهج التعليم لتعليم النشء فكرة الحزبية، وبأنها فكرة جيدة، وليست بغيضة، وأن العمل السياسي هو ذاته أفضل مجالات الخدمة العامة والعمل الطوعي، فبه يتجه المواطن لخدمة المجتمع اقتصاديا واجتماعيا.
  3. التعامل مع الأحزاب السياسية باعتبارها تنظيمات لها الدور الأكبر في مجال التجنيد السياسي، فهي مفرزة القيادات المحلية والقومية. هذا الدور يمكن تلمسه عند الاستعانة بدماء جديدة حال التغييرات على مستوى المحافظين ووزراء الحكومة، كما أن هذا الدور مهم للغاية في هذا الوقت؛ لأننا مقبلون في الأشهر القادمة على انتخابات برلمانية ثم محلية، ثم انتخابات رئاسية، لن يترشح فيها الرئيس السيسي بحكم الدستور.
  4. قيام الدولة بلعب دور حيوي غرضه الدفع بقوة لإحياء الأحزاب العتيقة، كحزبي التجمع والوفد. فمن خلال الدفع بتجديد الحياة السياسية في هذين الحزبين، يمكن أن يشكل ذلك نوعا من محاكاة الآخرين؛ بغرض بعث الحياة فيمن يمكن أن تبعث الحياة فيه، وذلك كله عوضا عن تأسيس جديد، سيكون نسخة كربونية من القديم.
  5. على الصعيد الحزبي الداخلي، فبدلا من تأسيس هياكل ستكون مشابهة، يمكن للدولة أن تقوم بأدوار مختلفة تجاه الموجود بالفعل من الأحزاب، ومن ذلك: –  

أ- تشجيع الأحزاب السياسية على الدمج فيما بينها. بعض أحزاب اليوم تُباع رخصها وتُشترى، فهي لدى البعض مصدرا للوجاهة الاجتماعية، لذلك فإن العمل على ضغط العدد الكبير من الأحزاب (والذي لا يملك أي شخص أو كيان أو مؤسسة إحصاء مؤكد له)، والذي يتراوح في أقل التقديرات بـ82 حزبا وأقصاها بـ112، أمر مهم للغاية.

بالتأكيد، الدولة الديمقراطية لا تتدخل في عدد الأحزاب السياسية، لكون تأسيس الأحزاب يخضع للقانون، بحيث يصبح الحكم الرئيس لوجود الأحزاب القوية في المجتمع هو الانتخابات العامة، وطبيعة التنظيمات والهياكل الحزبية. لكن ما من شك أن هناك إجراءات معتبرة، يمكن للسلطة اتخاذها لتشجيع دمج الأحزاب، التي يغلب عليها كما يقول الراحل عبد الغفار شكر، أنها تنتمي لأربعة تيارات، هي الليبرالي واليساري والوسط والإسلامي.

أهمية فكرة الدمج، تنبع من أن الأحزاب تقوم على اختلاف الرؤى، وبناء عليه يستحيل لأي عاقل، أن يعتبر أن في مصر 82 أو 112 قضية مختلف حولها!!.

تشجيع الدولة للدمج، والذي أكده د. علي الدين هلال كتوصية توافق الجميع عليها في الحوار الوطني، يمكن أن يتم عبر آليات عديدة على حد قوله.

 ب- تعديل قانون الأحزاب السياسية رقم 40 لسنة 1977، بالتأكيد على أنه عند تأسيس أي حزب سياسي، يجب أن يتميز برنامج الحزب طالب التأسيس عما هو قائم من أحزاب، وهو الشرط الذي ألغي عام 2005، واستبدل بالعبارة المرنة أن يشكل الحزب “إضافة للحياة السياسية”، وهي التي ألغيت أيضا عام 2011.

ج- إشراف الدولة بقضائها- وكما يحدث في نظم حزبية في بلدان متقدمة- على قواعد الحوكمة التي تجعل الأحزاب يتسم عملها بالشفافية، وإعمال قواعد الديمقراطية الداخلية، وكذلك عقد مؤتمراتها الدورية لتجديد الدماء فيها.

بتلك الخطوات وغيرها يمكن للدولة أن تلعب دورا إيجابيا في إحياء النظام الحزبي البالي.