حتى يوم ٨ ديسمبر الماضي الذي سقط فيه النظام السوري السابق بالهروب الذليل لرئيسه بشار الأسد، كانت المعادلة الاستراتيجية القديمة الحاكمة للصراع العربي الإسرائيلي لا تزال سارية، ولو من حيث الشكل على الأقل.
منطوق هذه المعادلة، كان هو ألا حرب دون مصر، ولا سلام دون سوريا، بمعنى أنه لا يمكن لأية دولة عربية بمفردها أو لعدة دول عربية مجتمعة، أن تخوض حربا شاملة بجيوشها النظامية ضد إسرائيل دون مشاركة مصر، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن أن يتحقق سلام شامل بين العرب وإسرائيل، ما لم تنضم إليه سوريا.
عن الحد الأول في المعادلة والخاص بمصر، وإن كانت تلك بديهية، فمنذ أن عقدت الدولة المصرية صلحها المنفرد مع إسرائيل، لم تقع حرب نظامية شاملة بين إسرائيل، وبين أية دولة عربية، بما فيها سوريا نفسها، الرافضة للصلح المصري الإسرائيلي، والتي كان غزو إسرائيل للبنان عام ١٩٨٢، والاعتداءات الإسرائيلية الكثيرة على الأراضي اللبنانية قبل وبعد غزو ١٩٨٢ تحديات مباشرة ومهينة لها.
وبالطبع، لم تكن عمليات المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية، المدعومة من دمشق ضد إسرائيل حربا بالمعني السابق ذكره، وكذلك لم تكن الاشتباكات السورية الإسرائيلية المتقطعة (في لبنان) حربا نظامية شاملة بين البلدين، غير أن تلك الهجمات وهذه الاشتباكات كانت من الشواهد المهمة على صحة الحد الثاني من المعادلة الأصلية القديمة، أي أنه لا سلام بدون سوريا التي سبق لها، وأن أسقطت مشروع اتفاقية السلام اللبنانية الإسرائيلية عام ١٩٨٤، في دليل دامغ آخر وقتها على أنه لا سلام بدونها.
هنا يجب أنبه بقوة إلى أنني لا أرثي لسقوط النظام السوري الإجرامي الطائفي الفاسد، ولكني فقط أرصد واحدة من النتائج الإقليمية الكبرى لسقوطه، وما مهد لهذا السقوط، وما ترتب عليه من نكبة عربية جديدة أمام إسرائيل، تمثلت في الهزيمة الضخمة والحزينة لمحور المقاومة، ممثلا في حركة حماس الفلسطينية، وحزب الله اللبناني، ومن ورائهما إيران… وسوريا الموقع والدور، وليس النظام، مما فتح الباب على مصراعيه لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، أو تغيير المنطقة، كما تعهد بنيامين نتنياهو لناخبيه، على أن يكون مفهوما، أن ما يقصده نتنياهو هو دمج إسرائيل دمجا كاملا في المنطقة، في إطار مشروع جديد للنظام الإقليمي، تقوده إسرائيل.
وفيما تتبارى مراكز البحث الاستراتيجي هناك، وكذلك كبار المعلقين والخبراء في رسم معالم المشروع الإسرائيلي المقترح للنظام الإقليمي الجديد، فإننا لا نكاد نلمح جهدا مناظرا على المستوى العربي، وكأن الأطراف العربية راضية، بما ستجود به عليهم القرائح الإسرائيلية، علما بأن ما يكتب وما يقال في تل أبيب وواشنطن، لا يتناول التعاون الاقتصادي، والعلاقات السلمية فحسب، ولكنه يتطرق باهتمام بالغ وتركيز كبير إلى التعاون الاستراتيجي والأمن الجماعي، حتى أن عاميت ياجور المعلق الشهير في صحيفة معاريف الإسرائيلية أطلق على المشروع عنوان مشروع مارشال الشرق الأوسطي (بتمويل خليجي ورعاية أمريكية وتوكيل إسرائيلي)، وستخصص المرحلة الأولى، لإعادة إعمار غزة والضفة ولبنان وسوريا، وفي هذه المرة ففضلا عن شمول التعمير ثلاث دول مشرقية، وقد يمتد إلى ليبيا فيما بعد، فإن وجه الاختلاف الثاني، هو أن الدول الخليجية سوف تضمن، أن ما سيتم إعادة إعماره، لن يجري تدميره مرة أخرى في حروب جديدة (ردا على أعمال المقاومة ما دامت التنظيمات المقاومة قد هزمت، وما دامت إسرائيل شريكا أساسيا في جهود إعادة الإعمار).
في هذا السياق، من السهل التنبؤ، بأن الخطوات الإسرائيلية التالية ستكون هي التوسع الإقليمي الذي تعمل من أجله دائما، والذي وعدها به الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، وكأنه بلفور الثاني يعطي ما لا يملكه، لمن لا يستحقه، وسيشمل الضم معظم الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة وغزة، والأراضي السورية المحتلة حديثا، وأجزاء من جنوب لبنان، ثم بتوازي مع ذلك الترحيل الجماعي للفلسطينيين إلى مصر والأردن.
في مواجهة هذا كله، وبوصفي معلق مصري، فماذا يتعين على العرب، أن يعملوا لكيلا يخسروا كل شيء من الأرض إلى الأمن؟ ولماذا يتعين على مصر أن تحفظ لنفسها الحد الأدنى من التوازن الاستراتيجي، وكذلك المصالح الاقتصادية الرئسية بوصفها من دول الإقليم الكبيرة، حتى إذا تغاضينا عن روابط العروبة والتاريخ بينها وبين بقية أشقائها العرب، وكيف لمصر أن تفعل ذلك؟
يؤسفني أن أعترف أن العرب لم ينجحوا مرة واحدة في تفعيل أي تنظيم إقليمي يتفقون عليه في مواجهة النكبات المتوالية عليهم، فقد فشل نظام الضمان الجماعي وميثاق الدفاع المشترك الذي وضع في إطار جامعة الدول العربية بعد النكبة الأولى في عام ١٩٤٨، أما إعلان دمشق للتعاون والأمن الجماعي بين دول مجلس التعاون الخليجي وبين كل من مصر وسوريا- الذي صدر- عقب حرب تحرير الكويت عام ١٩٩١، فقد مات وقبر قبل أن يبلغ عامه الأول، وبين الميثاق والإعلان فشلت محاولات الدفاع المشترك عن مياه نهر الأردن، ووقعت هزيمة ١٩٦٧ الكارثية، بالرغم من كل اتفاقيات الدفاع المشترك الثنائية فيما بين هذه الدولة العربية وتلك.
هذه المرة يوجد متغيران رئيسيان هما: أولا لم تعد فكرة الحرب ضد إسرائيل- والتي تخيف الجميع- مطروحة، ولو في الأحلام، ومن ثم فنحن جميعا أمام تحد سلمي، ولكنه شديد الخطورة أيضا، وهو خطط إسرائيل الكبرى المتوسعة على حساب جيرانها، والمتخلصة من الفلسطينيين بالترحيل، ثم المحتكرة للسلاح النووي للهيمنة على المنطقة.
أما المتغير الثاني، فهو دخول قوى الجوار العربي صراحة كأطراف رئيسية في الترتيبات الإقليمية، وفي الدواخل العربية، فنرى تركيا وراء التغيير في سوريا، ومن ثم أصبح لديها نفوذ خاص هناك، كما أنها تقيم لنفسها منطقة أمنية في شمال العراق، فضلا عن وجودها في ليبيا، ومصالحها في شرق المتوسط، ومشروعاتها لتأسيس شبكات لنقل غاز وبترول الخليج عبر أراضيها وموانيها.
وأما إيران، فإنها بدورها صاحبة مصالح استراتيجية هائلة في منطقة الخليج برا وبحرا، كما أنها تحتفظ بنفوذ خاص قوي جدا في العراق، وفي لبنان رغم هزيمة حليفها حزب الله عسكريا أمام إسرائيل، وكذلك في اليمن، وذلك من خلال شركائها المذهبيين، وفضلا عن ذلك، فإنها مستمرة حتى إشعار آخر في برنامجها النووي.
إن هذين المتغيرين وغيرهما يتيحان للدول العربية التأثير الإيجابي في أية صياغة للنظام الإقليمي الجديد، ولكن ذلك يقتضي متطلبات حتمية، أولها نبذ السياسات الطائفية داخل الأوطان، ليس فقط بوصفها متناقضة مع حقوق الإنسان، بل الأهم أن الطائفية هي من أخطر أسباب التدخل الأجنبي، وتهديد الأمن والاستقرار في كل دولة على حدة، وفي الإقليم ككل، كذلك فإن التنسيق مطلوب بشدة بين الدول العربية أولا، خاصة مصر والسعودية، وأكرر أن في التنسيق والتفاهم الكامل القاهرة والرياض الضمان الوحيد للحد المعقول من المصالح والمكانة والتأثير لكل منهما، ثم لبقية الإطراف العربية، على أن يكون من أولويات التنسيق المصري السعودي تشجيع العراق على التحرر من الهيمنة الإيرانية، وكذلك تشجيع سوريا على التحرر من الهيمنة التركية، كذلك التنسيق مع تركيا وإيران ثانيا. وكل ذلك للحد من طموحات الهيمنة الإسرائيلية المدعومة من أشد القوى رجعية وإمبريالية في الولايات المتحدة، لا سيما تحت رئاسة دونالد ترامب الجديدة.
وسوف يبقى لقصة التسلح النووي في الإقليم ظرف خاص بين إيران وإسرائيل، وتقتضي الواقعية الإقرار، بأن إسرائيل لن تتخلي عن هذا السلاح في المستقبل القريب، حتى إذا أيقن الجميع، بأن سلمية البرنامج النووي الإيراني نهائية، ولا رجعة فيها، ولكن يتحتم أيضا، أن يبقى مبدأ إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل هدفا، نسعى إليه نحن العرب، وإن طال المدى، وبالطبع فإنه توجد إجراءات لبناء الثقة ولتعزيز الأمن الجماعي، يمكن تطبيقها إلى أن نصل إلى ذلك الهدف.
المقال التالي والأخير في هذه السلسلة- إذا كان القارئ الكريم يتذكر- يجيب عن سؤال: لماذا وكيف تقبل إسرائيل، ما ورد في مقالات السلسلة من مقترحات؟
أقصد حل الدولة الواحدة بدلا من حل الدولتين، ونبذ سياسات التوسع الإقليمي، والترحيل القسري، وأخيرا الأمن الجماعي.
اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.