حققت الصومال اختراقا ونجاحا دبلوماسيا بفك ارتباط إثيوبيا بعمليات حفظ السلام في أراضيها، من خلال تأمين موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بنشر بعثة جديدة للاتحاد الإفريقي في الصومال؛ بهدف مواجهة جماعة الشباب الإسلامية المسلحة، من دون مشاركة إثيوبيا.
رسمياً، بدأت القوة الجديدة المعروفة باسم بعثة الاتحاد الإفريقي للدعم والاستقرار في الصومال (AUSSOM)، عملها في الأول من يناير الجاري، حيث تولت مهام بعثة الاتحاد الإفريقي الانتقالية في الصومال (ATMIS)، التي انتهت ولايتها في 31 ديسمبر، بينما لا تزال تشهد تحديات في إمكانية إتمام مهامها بعد انسحاب بوروندي أيضاً، وهي الدولة الأكبر مساهمة في بعثة حفظ السلام في الصومال منذ 2007، بعد أن طلبت الصومال تقليص عدد الجنود البورونديين في البعثة إلى 1041 جنديا، بدلاً من 2000 جندي.
مع قرار نشر البعثة الجديدة، كانت الصومال جاهزة بمجموعة من الاتفاقيات الثنائية والترتيبات التي جرت خلال الستة أشهر الماضية لتشكيل قوام البعثة بالتوافق مع الاتحاد الإفريقي، حيث قال ممثل الصومال أمام اجتماع مجلس الأمن: “نتعهد بإرسال 11 ألف جندي، تم التوافق عليهم عبر اتفاقيات ثنائية”.
لم يكن إبعاد إثيوبيا من المشاركة في بعثة السلم بالصومال أمر سهل بالنظر إلى الارتباط التاريخي لإثيوبيا في عمليات حفظ السلام ومكافحة الإرهاب، باعتبارها الشريك الأول للغرب والولايات المتحدة في هذا الملف ممثلاً للقارة الإفريقية، رغم تأمين معايير الاتحاد الإفريقي لحل الدولة المضيفة لاختيار الدول المشاركة في بعثات حفظ السلام على أراضيها، خاضت الصومال حملة دبلوماسية موسعة من أجل إبعاد إثيوبيا عن البعثة الجديدة، وخاصة مع تصاعد التوتر بين أديس أبابا ومقديشو على خلفية اتفاق إثيوبيا مع أرض الصومال بتأمين الوصول إلى ميناء بحري مقابل الاعتراف بالإقليم الانفصالي.
وتشارك أوغندا وكينيا وجيبوتي في البعثة المنتظرة للاتحاد الإفريقي، بينما تساهم مصر بمشاركة استثنائية في البعثة الإفريقية في الصومال، والتي تم تشكيلها بقوة قوامها 11,146 جنديًّا و85 مدنيًا و680 ضابط شرطة.
ولم تنجح التسوية الهشة عبر “إعلان أنقرة” بين إثيوبيا والصومال تحت الرعاية التركية بتأمين مشاركة إثيوبيا في حفظ السلام بمقديشو، إذ كان هناك حالة من الإصرار لدى المسئولين الصوماليين بعدم السماح لإثيوبيا بالمشاركة في قوة حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي، ما لم تتراجع عن مذكرة التفاهم التي وقعتها مع أرض الصومال، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
الخسارة الإثيوبية
منذ أن بدأت أول بعثة بقيادة الاتحاد الإفريقي (أميصوم) في الصومال في عام 2007، كانت إثيوبيا في مقدمة الدول الأفريقية المشاركة في قتال حركة الشباب في الصومال، حتى إعادة تشكيل أميصوم إلى بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال (ATMIS)، التي انتهت 31 ديسمبر 2024.
تصريحات المسئولين الإثيوبيين حول مدى إمكانية مشاركة إثيوبيا في قوات حفظ السلام الإفريقية في الصومال، كانت تعول على الخبرة الطويلة لأديس أبابا وفاعلية القوات الإثيوبية ليس بسبب العدد الكافي للجنود، لكن للخبرة والتجارب الإثيوبية السابقة في عمليات حفظ السلام في الصومال والخبرة بالجوانب الأمنية والاستخباراتية أمام التهديدات المستمرة لحركة الشباب.
وفي تعليقه على قرار نشر بعثة حفظ السلم في الصومال، قال السفير تيسفاي يلما، الممثل الدائم لإثيوبيا لدى الأمم المتحدة: “قرار نشر البعثة يأتي في ظل تحديات أمنية كبيرة، وإثيوبيا لديها توقعات عالية، بأن تساهم قوة حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي بشكل إيجابي في استقرار الصومال على المدى الطويل مع الحفاظ على المكاسب الأمنية التي تحققت حتى الآن”.
وفي إشارة إلى عدم مشاركة بلاده في البعثة، قال الممثل الدائم لإثيوبيا لدى الأمم المتحدة: “إثيوبيا قدمت تضحيات طويلة، وملتزمة بدعم جهود بناء الدولة في الصومال، كان هناك تقدم مشجع على مر السنين”.
وتبنى تيسفاي خطابا تحذيريا من مخاطر الإرهاب وتهديدات حركة الشباب، وما تملكه من قدرات تنظيمية وعملياتية متطورة، قائلاً: “حركة الشباب لديها طموح لإقامة خلافة إقليمية، ومن المثير للقلق أنها شكلت تحالفات مع قوات داعش وغيرها من الجماعات الإرهابية، مما يشكل تهديدًا كبيرًا للأمن الإقليمي والعالمي من خلال توسيع شبكتها عبر القارة الإفريقية ومنطقة البحر الأحمر بشكل خاص، بما يضر استقرار الأمن البحري”.
ولا تزال إثيوبيا تسعى لدور في الملف الأمني بالصومال، رغم عدم المشاركة في بعثة الاتحاد الإفريقي، حيث قال ممثلها لدى الأمم المتحدة: “مستعدون لمواصلة دورنا في دعم الحكومة الفيدرالية الصومالية، في مهمة ما بعد نظام مراقبة الأسلحة في الصومال، ونتطلع إلى التعاون الوثيق” مضيفاً: “ننصح الجهات الفاعلة من خارج المنطقة– دون أن يسميهم- التي ليس لها دور بناء مكافحة الإرهاب في الصومال بالتوقف عن مساعيها المزعزعة للاستقرار”.
لكن في حديثه أمام اجتماع مجلس الأمن قبل أسبوعين أظهر محمد ربيع يوسف، الممثل الدائم للصومال استعداد بلاده لتعويض أي فراغ قد يمثله غياب المشاركة الإثيوبية، قائلاً: “أظهر شركاؤنا الإقليميون من البلدان المساهمة تضامنًا ملحوظًا، وتعهدوا بالحفاظ على القوى الضرورية المكونة من 11 ألف جندي من قوة حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي، بالتالي سيعالج هذا الالتزام أي فراغ أمني قد يُخلق من غياب إثيوبيا مع الحفاظ على التقدم في القتال ضد حركة الشباب”.
يشار هنا أن الصومال تتصدر الاهتمام العالمي وجهود حفظ السلام الدولية، ليس فقط لما تعانيه من فقر وحرب أهلية مستمرة من فترة طويلة، وما تشهده من تنامي ظاهرة الإرهاب والتمرد الذي تشنه حركة الشباب التابعة لتنظيم القاعدة، إضافة إلى الكوارث الطبيعية المتكررة من جفاف ممتد؛ يتسبب في موجات متكررة من الأمراض والمجاعة والنزوح، لكن أيضاَ للأهمية الجيوسياسية للصومال وموقعها في القرن الإفريقي الذي بات يجذب الاهتمام العالمي، ويشكل محورا للتنافس بين القوى الدولية.
تهديد للمصالح الإثيوبية
وسجل الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود العديد من الإنجازات في ملف مكافحة الإرهاب في بلاده منذ مجيئه إلى السلطة في مايو 2022، حيث نجح في تغيير معادلة التعامل الدولي مع ملف الأمن في بلاده، من خلال النجاح في استقطاب مزيد من الدعم الخارجي لتدريب وتجهيز الجيش الصومالي، ومثل عودة الجنود الصوماليِّين من إريتريا، وبالتالي إعادة بناء قوات بلاده؛ لتكون قادرة على هزيمة حركة الشباب.
ويتمثل التحدي الرئيسي أمام الإدارة الصومالية في الحفاظ على المكاسب الميدانية وتأمين وجود الآلاف من الجنود المدربين والمجهزين لمحاربة التنظيمات الإرهابية، وهو ما يتعارض مع توجهات ومصالح بعض الفاعلين، وخاصة في دول الجوار الصومالي التي تخشى من وجود جيش صومالي قوي، يقلص من أدوارهم التاريخية في المنطقة.
ولعل نجاح الإدارة الصومالية في إعادة هيكلة القوات المشاركة في بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال أكبر دليل على نجاح الرئيس الصومالي في تقليل الأدوار التقليدية لإثيوبيا وبوروندي على سبيل المثال، فضلاً عن قدرته على إقناع بعض الشركاء الدوليِّين والإقليميِّين على رأسهم الولايات المتحدة وتركيا بالانخراط مجدداً في مواجهة حركة الشباب، وتفعيل استراتيجية أكثر شمولاً لمساعدة الصومال عسكرياً وأمنياً واقتصادياً، عبر تعزيز برامج الدعم الجوي واللوجستي والاستخباراتي لقوات الأمن في الصومال.
مدخل القوة للدور الإثيوبي
تسعى إثيوبيا لتعزيز وضعها في صدارة الدول المتبنية للملف الأمني في القرن الإفريقي وشرق إفريقيا عبر ملفات مكافحة الإرهاب وتعزيز الأمن الإفريقي، وهو ما أعطى لإثيوبيا الدور الأبرز والأقوى في منظمة الإيجاد، التي مارست من خلالها أدوارا إقليمية في الملفات الأمنية بالمنطقة، إلا أن هذا الدور، طالما أزعج جيرانها في الصومال والسودان الذي رفض كافة القرارات والأدوار الرقابية الإثيوبية، منذ اندلاع الحرب في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
ويأتي خروج إثيوبيا من البعثة الإفريقية الأمنية مهدداً للرغبة الإثيوبية في استعادة دورها المفقود الذي جعلها الشريك الإفريقي الأول للغرب في ملفات مكافحة الإرهاب وتعزيز الأمن في إفريقيا، وهو ما يهدد بدورة صورة رئيس الوزراء آبي أحمد، على الصعيد الدولي، وخاصة مع استمرار الاضطرابات الأمنية في الأقاليم الإثيوبية، وخاصة إقليم أمهرة وهشاشة الوضع الأمني في اقليم تيجراي وأورومو.. وبالتالي الفقدان التدريجي لثقة الشركاء الغربيين في النظام الإثيوبي، وهو ما يمكن أن يكون له انعكاساته على الاستثمارات الأجنبية والمساعدات الموجهة للداخل الإثيوبي.
وتواجه إثيوبيا خسارة دورها التاريخي في ملف الأمن بالصومال بمجموعة من التصريحات والانتقادات عبر دبلوماسييها في المنظمات الإقليمية والدولية باستنكار الرفض الصومالي للاعتراف بمساهمتها التي ترى أنها كانت “جزءًا لا يتجزأ من تقدم واستقرار الصومال، وأن المحاولات لتقويض هذا التعاون غير عادلة وخطيرة” على حد قول الممثل الإثيوبي في الأمم المتحدة الذي شدد على عدم إمكانية إنكار التضحيات الإثيوبية من أجل استقرار الصومال، والتحذير بأن إنكار هذه التضحيات قد يعرض السلام والأمن في منطقة القرن الإفريقي للخطر.
ورغم الاستبعاد الرسمي لإثيوبيا من القيام بأي دور في الملف الأمني في الصومال، إلا أن تصريحات المسئولين الإثيوبيين بعدم الانسحاب من الملف الأمني في الصومال، تمثل إشارة هامة إلى تجاوز إثيوبيا للهدف المعلن ظاهرياً بحرصها على تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي إلى أهداف وطموحات أخرى على الصعيد السياسي والاقتصادي؛ من أجل تعزيز النفوذ الإقليمي وتأمين الحفاظ على دور فاعل في كافة الملفات ذات الاهتمام الدولي، وخاصة في الصومال التي تمتلك الممرات التجارية والمواني الاستراتيجية على البحر الأحمر.