أخيرا تم الإعلان عن الموافقة على وقف إطلاق النار أو “الهدوء المستدام” بين حماس وإسرائيل بعد حوالي عام وأربعة أشهر على اندلاع حرب غزة التي راح ضحيتها، ما يقرب من ٥٠ ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، ودُمرت فيها ثلثا مباني قطاع غزة الذي تعرض سكانه للتشريد والجوع في واحدة من أسوء جرائم الإبادة الجماعية في تاريخ الإنسانية، وعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وقد تمسكت إسرائيل بالنص الذي سبق واقترحته، وهو وصف وقف إطلاق النار بالهدوء المستدام؛ لكي يعطي لها حق العودة مرة أخرى للعمليات العسكرية، واحتلال أي أجزاء من القطاع، إذا شعرت أنها مهددة وفق تعريفها.

 ورغم أن إسرائيل أثارت أمس عراقيل جديدة، حين طالبت بوضع قوات لها في رفح بعمق ٧٠٠ متر، وأن تعطي لنفسها حق الفيتو على أسماء بعينها من قائمة الأسرى التي قدمتها حماس، إلا أن رغبة الجميع في الوصول لوقف إطلاق النار كانت أقوى من عراقيل الحكومة الإسرائيلية.

وقد تضمن الاتفاق 3 مراحل، تستمر مرحلتها الأولى 42 يوما، وأعلنت إسرائيل، أنها تريد قصرها على مرحلتين:

 المرحلة الأولى من الاتفاق، وتسمى “المرحلة الإنسانية”، من المتوقع خلالها إطلاق سراح 33 أسيرا إسرائيليا من أصل 98، أحياء وأمواتا، بمن فيهم النساء وكبار السن والمرضى، من غير الجنود. على أن ينسحب الجيش الإسرائيلي من معظم المناطق الخاضعة لسيطرته في غزة. وحسب الاتفاق، فإن عملية إطلاق سراح أول دفعة من الأسرى الإسرائيليين ضمن المرحلة الأولى ستتم في اليوم السابع من وقف إطلاق النار. كذلك سيفرج مقابل كل مجندة إسرائيلية عن 50 معتقلا فلسطينيا، منهم 30 محكوما بالسجن المؤبد، و20 محكوما بالسجن لفترات طويلة. ومقابل كل إسرائيلي امرأة أو مسن، سيطلق سراح 30 معتقلا فلسطينيا من فئات مختلفة، بما في ذلك القاصرون والمرضى والنساء.

أما المرحلة الثانية، والتي ستبدأ في اليوم 16 من بدء الاتفاق، ستركز على مناقشات حول صفقة شاملة لجميع الأسرى في غزة، وإطلاق سراح من تبقى من الشباب والجنود. ويتعين التوصل إلى اتفاقات بشأن المرحلة الثانية قبل نهاية الأسبوع الخامس من المرحلة الأولى من الاتفاق.

أما المرحلة الثالثة والأخيرة، فتخص الترتيبات الطويلة الأمد وإدارة القطاع في “اليوم التالي”، كما تشمل خطط إعادة إعمار القطاع.

بدءا من اليوم الأول من الاتفاق، يدخل وقف إطلاق النار في غزة حيز التنفيذ، وينسحب جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى خارج المناطق السكنية الفلسطينية بمحاذاة الحدود، ويتوقف نشاط المسيرات لمدة 10 ساعات يوميا، و12 ساعة في أيام تبادل الأسرى. ويفترض أن يبدأ الانسحاب الإسرائيلي التدريجي من قطاع غزة، بما في ذلك الانسحاب من محور نتساريم الذي يفصل شمال غزة عن باقي أنحاء القطاع، والانسحاب كذلك من محور فيلادلفيا على الحدود بين قطاع غزة ومصر.

واللافت أن الاتفاق الحالي لم يختلف في جوهره، عما كان مطروحا في الأشهر الستة الماضية، ورفضته إسرائيل، وأن التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار سيطرح تساؤلات حول مستقبل القضية الفلسطينية، وحركة حماس يمكن إجمالها في نقاط ثلاث:

الأولى، أن حركة حماس أُضعِفت عسكريا بصورة كبيرة، وفقدت الجانب الأكبر من قدراتها العسكرية، ولكن إسرائيل فشلت في القضاء عليها، ولم تنته سياسيا، حتى لو فقدت جانبا من حاضنتها الشعبية، ولكنها لا زالت تتمتع بجانب آخر.

من الموكد أن حماس لن تحكم غزة بعد وقف إطلاق النار، وأنها ستظل مستبعدة من الترتيبات السياسية لإدارة القطاع، ولكن لا يمكن استبعادها من المشهد السياسي الفلسطيني، حتى لو أُضعِفت قدراتها العسكرية، وباتت جيوبها المتبقية غير قادرة على القيام بأي عمليات مقاومة مسلحة في الفترة القادمة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

الثانية، يفترض أن تكون هناك إدارة مدنية فلسطينية لقطاع غزة في اليوم التالي لإعلان “الهدوء المستدام”، سميت “إدارة الإسناد”، ورعت القاهرة مفاوضاتها بين فتح وحماس.

صحيح أن عناصر حماس لن تشارك في هذه الإدارة، حتى لو نجحت في إدخال بعض المقربين منها إليها، فإن التحدي سيظل في إمكانية أن تصبح هذه الإدارة معبرا للحل السياسي واستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، أم أنها ستبقى في إطار “الإسناد المدني”، كما تؤكد الحكومة الإسرائيلية، وترفض أي أفق للحل السياسي؟

مشروع نتنياهو وخطابه المعلن، يرفض حل الدولتين، ويعتبر أن اتفاق أوسلو الذي مثل اتفاق السلام الوحيد بين الجانب الفلسطيني والإسرائيلي، هو سبب عملية 7 أكتوبر، كما أعلن رفضه لعودة السلطة الفلسطينية لحكم قطاع غزة، واعتبر أن فتح وحماس وجهان لعملة واحدة، وإنه يرفض حكم ” فتحستان” و”حمستان” معتبرهما وجهين للتطرف والإرهاب، في حين أن العالم والأمم المتحدة والشعب الفلسطيني يرغبون أن يكون هذا “الهدوء المستدام” بداية لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، وبناء دولته المستقلة، في حين أن الغطرسة الإسرائيلية التي عبر عنها نتنياهو ترفض بشكل مطلق هذه الحلول.

الثالثة، هل يمكن بعد تثبيت الهدوء المستدام وطي صفحة الحرب، بكل ما خلفته من جروح ومشاعر ثأرية، أن يتغير النهج الإسرائيلي وتتغير الحكومة الحالية لصالح حكومة جديدة أكثر تقبلا لفكرة التسوية السلمية وحل الدولتين؟ وهل ستظهر قيادة فلسطينية جديدة تكون قادرة على تجاوز الانقسام بين فتح وحماس، واستعادة طريق المقاومة السلمية والقانونية والنضال الشعبي، الذي يجب أن يتقدم الصفوف على حساب المقاومة المسلحة التي تظل خيارا ووسيلة اضطرارية، ولكنها لا يجب أن تكون هدفا في حد ذاتها.

مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، أو ما بعد الهدوء المستدام، هي مفترق طرق قد توصل المنطقة إلى طريق تسوية سلمية أو يعيدها مرة أخرى إلى دائرة عنف جديدة.