التضييق على الحريات الشخصية
منذ فترة ليست بالبعيدة قامت الدنيا ولم تقعد بعد تدشين مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد، وذلك لما به من عيوب وتعديات على الحقوق والحريات، وانجراف نصوصه إلى ما تبتغيه السلطات، من تقييد للحريات وتضييق على الحقوق، وقد تحدث الكثيرون في أمر سلبيات القانون بشكل كلي في أوراق بحثية ودراسات، ومؤتمرات، ولكن لم يأبه مجلس النواب المصري للمحاولات المجتمعية لإصدار قانون ينحاز لحماية المواطن المصري، على أقل تقدير وصفي، بأنه الجانب الضعيف في مواجهة السلطة، وليس كصاحب حق في حماية حقوقه ومقرراته الدستورية.
وقد انتهى مجلس النواب من إقرار المادة 79 من هذا القانون الجديد، وهي المادة المعنية بتنظيم ضبط الرسائل والخطابات وكيفية مراقبة الاتصالات السلكية واللاسلكية، وقد جاء النص مضيقاً إلى حد بعيد من هذا الأمر، على الرغم من أنه يتناول حقا من الحقوق الشخصية للمواطنين، تلك التي أفرد لها الدستور المصري حمايته، بل أنه جعل من العدوان عليها جريمة، لا تسقط الدعوى الناشئة عنها بالتقادم/ إذ أن النص يجري على أنه: يجوز لعضو النيابة العامة، بعد الحصول على إذن من القاضي الجزئي، أن يصدر أمرا بضبط جميع الخطابات والرسائل والبرقيات والجرائد والمطبوعات والطرود، وأن يأمر بمراقبة الاتصالات السلكية واللاسلكية وحسابات مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي ومحتوياتها المختلفة غير المتاحة للكافة، والبريد الإلكتروني والرسائل النصية والمسموعة والمصورة على الهواتف أو الأجهزة أو أية وسيلة تقنية أخرى، وضبط الوسائط الحاوية لها وإجراء تسجيلات لأحاديث جرت في مكان خاص، متى كان لذلك فائدة في ظهور الحقيقة في جناية أو جنحة معاقب عليها بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر.
ويجب أن يكون الأمر بالضبط أو الاطلاع أو المراقبة أو التسجيل لمدة، لا تزيد على ثلاثين يوما. ويصدر القاضي الإذن المشار إليه مسبباً بعد اطلاعه على الأوراق والتحقيقات، ويجوز له أن يجدده لمدة أو مدد أخرى مماثلة.
وفي حقيقة الأمر، فإن ذلك النهج ليس حديثاً على المشرع المصري، إذ أنه قد سبق النص على ذلك في المادة 95 من قانون الإجراءات الجنائية القائم، وما زاد في النص المستحدث هو إدخال مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي والبريد الإلكتروني، وما استحدث من وسائط تقنية حديثة.
لكن ذلك لا يمنع، من أنه كان الأوجب من البداية حال قيام حالة استحداث تشريعي، أن يكون هناك سعي للمزيد من الضمانات، حتى وإن لم تكن موجودة من قبل، أو بصور عمومية السعي نحو تلافي عيوب النصوص السابقة، واستحداث المزيد من الضمانات، فيما يتعلق بالحقوق والحريات، سواء كانت عامة أو شخصية.
لكن التزيد في استحداث مساحات المراقبة لا يعدو أن يكون تضييقاً على الحريات الشخصية ومدعاة للتضييق على حقوق وحريات الرأي والتعبير بشكل كلي.
وقد استقر الفقه، على أن هناك حدودا وجب عدم تجاوزها حين التشريع في أمر من أمور الحقوق والحريات، وكما ذكر أستاذنا الدكتور/ أحمد فتحي سرور في مقدمة مؤلفة القانون الجنائي الدستوري: – أن الدولة القانونية بحكم وظيفتها، عليها أن تحمى جميع المصالح القانونية، وهى ليست قاصرة على الدولة وحدها، بل إنها تشمل أيضا حقوق الفرد وحرياته، فالحقوق والحريات يجب أن يحميها القانون، ولا يجوز إهدارها بدعوى المحافظة على مصلحة المجتمع، بل يتعين التوفيق بين المصلحتين في إطار العلاقات الاجتماعية التي تحكم المجتمع. وقد عني الدستور المصري ضمانا لحماية الحقوق والحريات، بأن ينص في المادة 57 منه، على أن ” الاعتداء على هذه الحقوق والحريات جريمة لا تسقط دعواها الجنائية ولا المدنية بالتقادم، وأن تكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء”.
كما تتجسد حماية الحريات العامة من خلال تبصير الأفراد، بما هو غير مشروع من الأفعال قبل الإقدام عليها، بما يضمن لهم الطمأنينة والأمن الشخصي ويحول بذلك دون تحكم القاضي في حرياتهم الشخصية، ولكن تثور المشكلة في مدى احترام السلطات لهذا المبدأ، ومدى توافقها في إصدار تشريعاتها مع ضرورة الحفاظ على حقوق الأفراد وحرياتهم، وضرورة التجريم صونا لحقوق الأفراد والمجتمعات من زاوية ثانية، كما تبدو المشكلة أكثر صعوبة في كيفية صياغة التشريعات العقابية، واحترامها للمبادئ والقيم الدستورية والتي يبدو أهمها في هذا المقام، هو “التناسب ما بين الجرم والعقاب”، وأن تتفق أو تتساند النصوص العقابية مع الدستور والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق وحريات المواطنين. وذلك لا يختلف حال التشريعات الإجرائية، إذ أنه يستحيل، أن تتناسب سبل كشف الجريمة والبحث عن مرتكبيها مع الإخلال بضمانات الحقوق والحريات الشخصية، إذ أن ذلك يخل بالضمانات الدستورية، ولا يجعل للمعاني الدستورية الضامنة لكفالة الحقوق والحريات أية قيمة أو معنى، وهذا يخل بمقام الدولة ذاتها، بحسبها يجب أن تكون حماية بشكل رئيس، لما أورده الدستور من ضمانات ذات أبعاد حقوقية ترتب مصالح للمواطنين.
وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا ذلك المعنى في حكمها رقم 42 لسنة 16 قضائية دستورية، حين قضت بأنه “من غير المحتمل أن يكون انتفاء الأوضاع المتصلة بالعمل العام تبصيراً بنواحي التقصير فيه مؤدياً إلى الإضرار بأية مصلحة مشروعة، وأنه من غير الجائز أن يكون القانون أداة تعوق حرية التعبير من مظاهر الإخلال بأمانة الوظيفة العامة أو مواطن الخلل في أداء واجباتها، وأن النظر في أعمال القائمين بالعمل العام، وتقويم اعوجاجهم يعتبر واجباً قومياً، كلما نكل هؤلاء عن طبيعة واجباتهم إهمالاً وانحرافاً”.
وأهم ما يعيب ذلك النص المستحدث، هو إصراراه على فتح مدد المراقبة، بنصه “لمدة أومدد أخرى”.
علاوة على استحداثه كافة سبل تداول المعلومات الالكترونية، بما يتيح الوصول بشكل كامل، لكل ما يحتفظ به المواطنون من أسرار على مواقعهم أو صفحاتهم الشخصية أو بريدهم الإلكتروني، أو غير ذلك من سبل تقنية حديثة. وذلك ما يتناقض مع أية ضمانات حامية لحرية الرأي والتعبير، تلك التي تعتبر هي أصل جميع الحريات التي تتصل بإبداء الآراء والأخبار والمعلومات وتلقيها والتعبير عنها بکافة الوسائل، ولهذا تندرج تحت حرية التعبير مجموعة من الحريات والحقوق الأخرى ذات الصلة کحرية الصحافة، وحرية الإعلام، وحرية تداول المعلومات، والحرية الأكاديمية، وحرية الإبداع، والحق في الإضراب، والحق في التجمع والحق في التنظيم، ويتوقف ممارسة هذه الحريات على كفالة حرية التعبير ابتداء، نظراً لأنها الحرية الأصل، التي إن انتُقصت امتد هذا الانتقاص إلى سائر المنظومة، وحمايتها بموجب الدستور، تعني حماية لهذه الحريات، وتتوقف ممارسة هذه الحقوق، بدون خوف أو تدخل غير قانوني، أمر أساسي للعيش في مجتمع منفتح ومنصف، مجتمع يمكن فيه للناس الحصول على العدالة والتمتع بحقوقهم الإنسانية.