قرب نهاية نظام الرئيس الأسبق “حسني مبارك” تواترت إشارات التغيير.

عندما بدا لمراسل أوروبي مقرب من دائرة رئيس الوزراء الإيطالي “رومانو برودي”، عمل في القاهرة وبيروت لسنوات طويلة، أن يسأل بعض أصدقائه القدامى من المصريين عن تصوراتهم للمستقبل السياسي، جاءته الإجابات مقتضبة وصريحة: فوضى يعقبها، تدخل لمؤسسات القوة، وتذهب السلطة إلى أصحابها الجدد.

سأل مندهشا: هل يمكن أن يحدث ذلك فعلا؟.. وبدت مصر أمامه، وهو يطل على نيلها مغلقة على أسرارها، ومصائرها معلقة على مجهول– كما كتبت حرفيا في (5) نوفمبر (2006) على صفحات جريدة “العربي”.

كانت الإشارات ماثلة، لمن يريد أن يقرأ، فلم يكن هناك ما يدعو إلى الاعتقاد، بأننا بصدد إصلاح سياسي ودستوري جدي، يستجيب لمتطلبات نقل السلطة بصورة آمنة وسلمية، أو أن بوسع نظام الحكم التغلب على مشاكله الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، ولا كان بوسعه إدراك طبيعة الأزمة وحجمها، وما يمكن أن تذهب إليه.

في إحدى زياراته للولايات المتحدة، كان من ضمن الذين استقبلوا “مبارك” شاب مصري والده ضابط كبير سابق.

سأله الرئيس: ماذا تفعل هنا؟

أجابه: “أعمل في الأمم المتحدة، ولكني أتمنى العودة إلى مصر”.

كان تعليق الرئيس صادما: “هي دي بلد حد يعيش فيها!”.

هكذا نشرت القصة بحذافيرها.

يدرك الذين سمحت لهم الظروف بالاقتراب من “مبارك”، أن بعض تعليقاته عفوية، لكن هذه الواقعة بحمولاتها انطوت على رؤية بالغة السلبية للبلد الذي يحكمه، ويعمل على توريثه لنجله الأصغر!

كان البلد يزحف فوق حقل من الألغام السياسية والاجتماعية، أمنه القومي في حال انكشاف.

رئاسته تغض الطرف عن الأخطار المحدقة، والأمن يتجاهلها بظن أن الملف السياسي هو المصدر الوحيد لتهديد أمن النظام، وأن الأمور سوف تمضي آمنة بمطاردة المعارضة وجماعاتها الغاضبة، دون تنبه أن التهديد الحقيقي قد يضرب ضربته من خارج المعادلات السياسية كلها، كما حدث فعلا في عواصف “يناير” (2011).

لم تكن مصر بلدا واحدا ومجتمعا واحدا، فهناك مجتمعان، كل منهما في عزلة تامة عن الآخر، مجتمع ثراء فاحش، مصدره غير مشروع في الأغلب، له مدارسه وجامعاته ومنتجعاته وثقافته الخاصة وارتباطاته بالمصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، ومجتمع فقره مدقع ويضربه اليأس من أية احتمالات للترقي الاجتماعي، ولو بالتعليم والتفوق فيه، وبدأت تجرفه انهيارات مستويات المعيشة إلى قاع بلا نهاية.

لم يكن ممكنا أن يتعايش المجتمعان، كل في عوالمه إلى الأبد.

في لحظة، لا بد أن يحدث انفجار، وأن تجرف حممه من تصوروا، أن بوسعهم أن ينهبوا البلد، ويبيعوا ويشتروا فيه دون عقاب، أو حساب.

أسوأ ما جرى بعد إطاحة النظام، أن أحدا لم يراجع تجربة “مبارك” ومواطن القوة والضعف فيها، ولا أخضع إلى أية مساءلة سياسية، حتى تستبين الحقائق كاملة، ولا تتكرر أخطاء الماضي بصور أخطر وأفدح.

في عام (2005) بدا النظام، كأنه استنزف طاقته على البقاء ومشاهد الانتخابات الرئاسية أوحت، بأننا قرب النهاية.

في ذلك العام جرت هندسة الانتخابات النيابية، وعقدت صفقات في الأقبية السرية، حصلت جماعة “الإخوان المسلمين” بمتقضاها على (88) مقعدا برلمانيا.

لم تضخ هندسة الانتخابات أية شرعية في شرايين النظام المتيبسة، لكنه اكتسب قدرته على البقاء، بفضل ما أتاحه من حريات صحفية وإعلامية لا مثيل لها في التاريخ المصري الحديث، رفعت سقف الآمال المعلقة على إصلاح النظام من الداخل.

عندما تبددت أية آمال في إصلاح النظام بالتزوير الفاحش للانتخابات النيابية عام (2010)، انفسح المجال واسعا لعاصفة يناير (2011).

هناك من توقع “ثورة جياع”، بالنظر إلى تزايد الاحتجاجات أمام المخابز ومستودعات أنابيب الغاز، أو “انتفاضة خبز جديدة”، كما جرى في انتفاضة يناير (١٩٧٧)، أو “حريق قاهرة آخر” على النحو الذي جرى في يناير (١٩٥٢)، أو تغيير النظام بتدخل عسكري كما حدث في (23) يوليو.

لم يخطر ببال أحد إطاحته بانتفاضة شعبية مدنية تدعو إلى نظام، ينسخ الماضي ويلتحق بعصره، لكنها اختطفت في أول الطريق الطويل، وما زالت تطلعاتها ماثلة في ذاكرة الأجيال التي شاركت بأحداثها الكبرى، وعانت مرارة الانكسار، والأجيال التي تلتها وورثت الأحلام والمرارات ذاتها.

في أيام “يناير” اقتحمت مسرح الحوادث أجيال شابة جديدة بروح جديدة وخيال مختلف، أصابت وأخطأت، لكن روحها تعلقت بفكرة الثورة، التي حسمت خيارها قطاعات جماهيرية واسعة، نالت المظالم الاجتماعية من أبسط حقوقها في الحياة.

لعبت الحركات الاحتجاجية، وفي مقدمتها الحركة المصرية للتغيير “كفاية” والجمعية الوطنية للتغيير، أدوارا جوهرية في معارضة سيناريو التوريث للابن والتمديد للأب، وصنع مسار سياسي للغضب المتصاعد، يتبنى التحول إلى الديمقراطية وبناء دولة مواطنة وعدالة وقانون.

لخّص “مشروع توريث الجمهورية” من “الأب” إلى “نجله الأصغر” أزمات النظام كلها ووضعه مباشرة أمام النهايات المحتمة.

كان ذلك المشروع تعبيرا عن سطوة رجال الأعمال المتنفذين في صلب القرارين الاقتصادي والسياسي بزواج بين السلطة والثروة.

لم يكن ممكنا بأي حساب توريث الحكم بغير أثمانٍ باهظة، واضطرابات لا قبل لأحد بها.

قيمة “يناير” في التاريخ أنها عكست الإرادة العامة التي لا سبيل لتحديها، بقدر ما طمحت إلى الانتقال لعصر جديد أكثر عدلا وحرية وكرامة إنسانية.

قبل العاصفة تبدت حالة غضب بين الأجيال الجديدة وجماعات المثقفين، وكل ما له قيمة في البلد، استقطبت المشاعر العامة، حتى بدا النظام كله في العراء السياسي.

رغم الاحتقانات السياسية والاقتصادية التي دعت الطبقة الوسطى والفئات الأكثر احتياجا إلى إعلان تذمرها، فقد كان “مشروع التوريث” هو نقطة التفجير التي استدعت كل الغضب إلى كل الميادين.

لا يعني إجهاض الثورة نفي شرعيتها وإحالتها إلى محض مؤامرة.

هذه اتهامات انتقامية لا موضوعية ولا عادلة.

أسوأ مقاربة ممكنة لما جرى قراءة التاريخ بالهوى وإنكار الحقائق بالتجهيل.