منذ أن اندلعت ثورة يناير 2011 والجدل حولها مستمر منذ 14 عاما، صحيح أن خريطة مصر السياسية والاجتماعية تغيرت، عما كان عليه الحال في عهد مبارك، ومع ذلك لا زال هناك تيار حكم وإدارة، يرفض يناير ويحملها مسئولية ما جرى في البلاد من فوضى وعنف، وهناك من لا زال يعتبرها الحدث الأهم في تاريخ مصر المعاصر، وأنها أُجهضت بسبب تآمر أعدائها عليها.
والحقيقة، أن كلام المؤيدين والمعارضين (عن قناعة) لثورة يناير يستحق النقاش، ما دام أن هذا الموقف لا يرجع لحسبة سلطة أو مشي مع “الرايجة”، ويصبح تقييم ونقد يناير بعد 14 عاما على اندلاع أحداثها أمرا مشروعا.
ورغم أن هناك كثيرا يمكن أن يناقش حول يناير ومسارها وأسباب تعثرها، إلا أنه لا زال هناك قطاع واسع من أهل الحكم يخاف، ويخوف الناس منها، ويعتبرها تمثل خطرا على الدولة، وجزءا من خطط ومؤامرات خارجية تحاك ضد البلد.
وقد تزايد في الأعوام الأخيرة التأكيد على اعتبار ٢٥ يناير هو عيد للشرطة، وبدا هناك سجال أو “صراع هويات” بين من يرى أن يناير هو تاريخ واحد من أهم الثورات الشعبية في مصر، وبين من يؤكد على إنه عيد للشرطة يستعرض فيه قوتها في لوحات الدعاية في الشوارع ووسائل الإعلام، وكيف أنها نموذج للتضحية والفداء من أجل الحفاظ على الدولة.
والحقيقة أن إصرار القيادة السياسية على طمأنة المصريين في كل يناير مؤشر على وجود “قلق ما” منها، وهو أمر يجب تجاوزه بإجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية المطلوبة لتفادي أي مسار ثوري والتمسك بالمسار الإصلاحي.
إن “المراجعة العكسية” التي حدثت لدلالات يناير لم تفد، فبدلا من توسيع الهامش السياسي ودعم الانتقال الديمقراطي ودولة القانون، اعتبر أن الأولوية لمحاربة الإرهاب والإنجاز الاقتصادي، فنجحت مصر في الأولى، وتعثرت في الثانية، وظلت مراجعة أسباب انتفاضة الناس في يناير غائبة لصالح تخويف الناس من تكرارها.
إن “تفادي يناير” يتطلب دعم الشفافية والحوكمة ودولة القانون لا التراجع عنهم، ويتطلب أيضا رقابة شعبية على الأداء العام للدولة ومناقشة كل المشاريع التي تنفذها، سواء عرفت باسم المشاريع القومية، أو كانت مشاريع في حي، ويتطلب أيضا دعم الوسيط السياسي والحزبي والمبادرات الأهلية، فقبل ثورة يناير كان هناك نظام سياسي قائم على التعددية المقيدة، وكان هناك حكم من خلال وسيط سياسي وحزبي، كان محل نقد الكثيرين، ولكنه ظل أداة سياسية ولو “معيوبة” ووسيط ناقص الكفاءة بين السلطة والناس، وإن المطلوب هو تجاوز عيوب “حزب ما قبل يناير”، لا تهميش وجود الوسيط السياسي من الأساس لصالح هندسة المشهد الانتخابي والسياسي بأدوات سابقة التجهيز.
أما أنصار يناير، فبعضهم راجع خطابه الثوري ونظرته الإقصائية للخصوم السياسيين، وبعضهم الآخر لم يتغير، وأن المراجعة المطلوبة من القوى السياسية أو بالأحرى مناقشات المستقبل حول يناير، تقول إن عدم وجود قاعدة متوافق عليها بين القوى السياسية المدنية سيدفع الناس إلى البحث عن “المنقذ” الذي سيخلصهم من هذا الانقسام والفشل، وغالبا ما يكون في بلد مثل مصر قادم من المؤسسة العسكرية، ويكون الجيش هو البديل للفشل السياسي المدني بدعم شعبي.
إن حملات إقصاء الجميع سواء قيادات الحزب الوطني أو القوى المحافظة والتقليدية من عمد ومشايخ وعائلات، واعتبارها من الفلول، فرغت جانبا كبيرا من المشهد السياسي لصالح الإخوان أولا، ثم مؤسسات الدولة ثانيا، والمطلوب حاليا قبول التمثيل السياسي المتنوع لرجال الأعمال والطبقات الوسطى والعمالية على أرضية مدنية، بمن فيهم من كانوا في الحزب الوطني السابق، ويمكن قبول أحزاب سياسية مدنية لديها مرجعية إسلامية وفق المادة الثانية من الدستور، كما هو حادث بالفعل، ولكن لا يمكن قبول جماعة دينية عقائدية، تمتلك ذراعا سياسيا شكليا وتدخل المجال السياسي المدني بشروط الجماعة الدينية، وليس الحزب السياسي كما فعل الإخوان المسلمون، وأخيرا مطلوب التوقف عن وصف القوى المحافظة والتقليدية، على أنها ثورة مضادة، وهو تعبير يتم استدعاؤه من متاحف التاريخ، ولم تعرفه كل تجارب التغيير الناجحة في النصف قرن الأخير، التي اعترفت بوجود القوى المحافظة التي تكره الثورة، وتميل للاستقرار وبجانبها كانت هناك قوى ليبرالية ويسارية.
إن قبول الدولة بهذا المسار الإصلاحي، والاعتراف بالتنوع داخل المجتمع وفي قلب نخبته سيعني بشكل عملي تفادي مسار يناير، دون الحاجة للخوف أو التخويف منها.
النقاش حول يناير يجب أن يكون نقاشا مستقبليا، وأن قناعة المؤيدين والمعارضين لها بأن “تفادي يناير”، لن يتم إلا بدعم المسار الإصلاحي، وهو مسار تتحمل السلطة بشكل أساسي مسئولية تعطيله؛ لأن الثورة أو الانتفاضات الاجتماعية؛ هي نتيجة إغلاق المسار الإصلاحي أو شعور أغلب الناس بعدم جدواه.
على أنصار يناير ألا يحزنوا، إذا شعروا أن مطلوبا منهم أن يعتبروا “تفادي يناير” وعدم تكرارها نجاحا لهم؛ لأنه سيعني أن النظام السياسي تحرك في اتجاه الإصلاح، ولم يعد هناك طلب على فكرة الثورة، وأنهم أيضا تغيروا وبنوا مؤسسات، وأحزاب لديها برامج ورؤى بديلة تساهم في تقدم البلد.