لم تزل قضية الحبس الاحتياطي من أخطر القضايا التي مر بها المجتمع المصري، منذ سنوات طوال، وعلى الرغم من الوعود الكثيرة، وكذلك على الرغم، مما تم تداوله في غرف الحوار الوطني، وما تم تقديمه من أوراق لتعديل أحكام الحبس الاحتياطي، ليتناسب مع كونه أحد الإجراءات الوقتية التي من المفترض وجودها؛ من أجل الحفاظ على أدلة الدعوى، وضمانات جدية التحقيقات، وعدم العبث بالأدلة الجنائية، إلا أن أمر الحبس الاحتياطي في مصر لم يزل بعيداً عن أية ضمانات، تتناسب مع قدسية الحرية لشخصية، وأنها أعلى قيمة من ضمانات التحقيق ذاتها، وذلك بحسب ما استُقِر عليه في أحكام النقض، من أن إفلات متهم من العقاب أفضل من معاقبة برئ، وأن الأصل في الإنسان البراءة، فلا يجوز أن يكون الحبس الاحتياطي وسيلة من وسائل العقاب قبل المحاكمة.
إذا اعتُمدت المادة 123 من القانون الجديد بصيغتها الحالية، سينخفض الحد الأقصى للحبس الاحتياطي من ستة إلى أربعة أشهر في حالة الجنح، ومن 18 إلى 12 شهرا في حالة الجنايات، ومن 24 إلى 18 شهرا في حالة الجرائم التي يعاقب عليها بالسَّجن المؤبد أو الإعدام.
فهل يمثل ذلك التخفيض البسيط في حد مدة الحبس الاحتياطي، كل الأمل الذي تعلق به المهتمون بالقانون والحقوقيون المصريون، إبان إطلاق ذلك المشروع الجديد لقانون الإجراءات الجنائية؟ وهل يمثل ذلك تماشياً مع التجارب القانونية الدولية في هذا الإطار؟ أم أن الحكومة المصرية بصفتها صاحبة مشروع القانون لها هدف من الإبقاء على الحبس الاحتياطي بهذا الشكل المفتوح؟
وهل بشكل حقوقي أممي يتماشى ذلك مع ما أقرته “لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة”، من أن الاحتجاز رهن المحاكمة لا يجوز الأمر به، إلا بعد “تحديد فردي بأنه معقول وضروري في جميع الظروف، لأغراض منع الهروب أو التدخل في الأدلة أو تكرار الجريمة أو التأثير على الضحايا”. وقد أشارت اللجنة، كذلك إلى أن: “الاحتجاز قبل المحاكمة ينبغي ألا يكون إلزاميا لجميع المتهمين بارتكاب جريمة معينة، دون مراعاة الظروف الفردية. ينبغي أيضا عدم إصدار أمر بالاحتجاز قبل المحاكمة لفترة بناء على العقوبة المحتملة للجريمة المنسوبة، وليس بناء على تحديد الضرورة”.
والحبس الاحتياطي من حيث التعريف العلمي، هو أمر قضائي مؤقت، تستلزمه مصلحة التحقيق وحسن سير الإجراءات، وهو إجراء استثنائي، ينطوي على حرمان المتهم من حريته الشخصية خلال مدة مؤقتة قبل صدور حكم قضائي في موضوع التهمة المنسوبة إليه. ومن هنا أحاطه القانون بالعديد من الضمانات والقيود التي تكفل وضعه في مكانه الصحيح كإجراء استثنائي احتياطي مؤقت؛ غرضه مصلحة التحقيق، يُتخذ ضد متهم تُفترض براءته، ما دام لم يصدر حكم بإدانته، فإذا انتفت العلة من اتخاذه امتنع اللجوء إليه، وإلا كان في سلب حرية المتهم بحبسه احتياطيا نوع من التعسف.
والأصل العام في جميع التشريعات الدولية أن إجراء الحبس الاحتياطي، إنما يستخدم ضد الاشخاص الذين ليس لهم مقر إقامة أو عمل، ولجرائم خطيرة، تهز المجتمع والنظام العام فيه، ولا يجدي التعويض المالي لإزالة ما سببه من إخلال، أو يخشى أن يتم التأثير على الأدلة في هذه القضايا أو لحماية المتهم شخصياً من انتقام المجنى عليه أو أسرته، ويتم التعامل بحرص مع الحبس الاحتياطي لكونه إجراء استثنائيا يجب وضع قيود للسلطة المختصة به، بحيث يكون تطبيقه في أضيق الحدود وللضرورة التي يتطلبها القانون، إلا أن الوضع في مصر لم يكن كذلك سواء على مستوى التشريع أو التطبيق، فعلى مستوى التشريع، لم يتم التعامل مع الحبس الاحتياطي، على أنه إجراء استثنائي ولجرائم خطيرة.
كما أن ما تم إقراره من نصوص قانون الإجراءات الجنائية المتعلقة بالحبس الاحتياطي تتناقض مع التعليق العام رقم 35 للجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة المعنية بإعمال العهد الدولي الخاص المدنية والسياسية، والذي جاء فيه أن يكون الاحتجاز فيما قبل المحاكمة في أضيق النطق، وأن تلتزم الدول بتقديم المتهمين إلى المحاكمة الجنائية على نحو عاجل، بما يتناسب مع ضمانة الحرية الشخصية، كما يلزم ألا يكون التوجه للاحتجاز في مرحلة ما قبل المحاكمة، هو الغرض الأساسي، بل يجب أن يكون هو السبيل الأخير الذي لا يتم اللجوء إليه إلا في أضيق الأحوال، ولا يمكن أن يكون مسوغا العمل به على نحو واسع وبصورة غير مبررة أو متوسع فيها، مع ضمانة التعويض عن استخدامه.
وهنا نستطيع أن نؤكد أن ما جاء بتعديلات قانون الإجراءات الجنائية قد فتح الباب على مصراعيه لجعل أمر الحبس الاحتياطي، وهو من المفترض أنه في حالة حدوثه أن يكون من الأمور المؤقتة، جعله ممددا طويلة بحسب النصوص التي تمت الموافقة عليها من مجلس النواب. ومن ثم ففي حالة الإقرار النهائي لمثل هذه التعديلات يصير معها الحبس الاحتياطي عقوبة مسبقة قبل الحكم القضائي، توقع باسم القانون، وهذا ما يتنافى تماما مع قرينة البراءة، والتي تعد من أصول المحاكمات الجنائية، والتي تستوجب أن يتمتع بها المتهم منذ لحظة القبض عليه، وحتى إسدال الستار بصدور حكم نهائي، وبات في الدعوى الجنائية، كما أن تمرير مثل هذه التعديلات يتعارض كلية مع كل التطورات التي جاءت في مجال العقوبات المقررة، والتي أخذت في السير نحو التخفيف إلى حد كبير من العقوبات السالبة للحرية، في حالة المحاكمة واستحقاق المتهم للعقاب، ولكن ونحن هنا وفي مرحلة ما قبل المحاكمة، نتجاوز كل الأطر ولا نضع سقفا للحبس الاحتياطي، ونجعله مفتوحا على النحو السابق بيانه، وهو الأمر الذى يصيب العدالة الجنائية في صميمها، ويأخذ من ثقة المتقاضين في القضاء الجنائي، وثقتهم كذلك بالقانون.
وأرى أن الموضوع لم يزل في حيز القدرة على التعديلات، وفي مرحلة ما زالت تحت السيطرة، بما يجب أن يتدخل أصحاب الحل والعقد، بما يعود على توصيف التشريعات المصرية بالصفة العقلانية، ومدى احترامها للحقوق والحريات، ذلك إذ أن أمر مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد لم يزل في أيدي نواب مجلس النواب، ولم يخرج بعد إلى حيز العرض على رئيس الجمهورية، وهو ما يعني أن أمر مناقشته لم يزل مطروحاً، وأن وجود قانونيين من بين أعضاء الكتلة التشريعية، يجب أن يكون لهم دور في حماية الحريات الشخصية، وألا ينجرفوا وراء استرضاء الحكومة، خصوصا ونحن على مشارف انتهاء مجلس النواب بصورته الحالية، وعلى أعتاب انتخابات نيابية جديدة، يجب أن يسعوا فيها لاسترضاء المواطنين، وذلك لا يكون إلا بحماية حقوقهم وحرياتهم.