في 17 يناير 2025 نشر أحد المواقع الإلكترونية خبرا بعنوان “كيف استجابت الحكومة لتوصيات الحوار الوطني حول تطوير التعليم؟”. من ينظر إلى الخبر يدرك للوهلة الأولى، أن الحكومة بريئة تماما من دم النواكب التي ضربت في العقود الأخيرة هياكل التعليم في مصر، بعدما كانت الأخيرة منارة لمحاكاة اليابان لمصر التي أوفدت بعثتها لها لنقل الخبرة المصرية عام 1862 إبان عهد الخديوي سعيد، وكذلك بعثة كوريا الجنوبية لمصر عام 1962 إبان حكم الرئيس جمال عبد الناصر.
الخبر الصادم السابق ورد في موقع صحفي إلكتروني مملوك للمخابرات العامة، عبر امتلاك الأخيرة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية التي تستحوذ منذ العام 2016، وحتى اليوم على غالبية القنوات التلفزيونية المصرية (24 قناة) والمحطات الإذاعية (6 محطات) والمؤسسات الصحفية، وبعضها يملك مواقع إلكترونية (13 مؤسسة) وشركات إنتاج سينمائي (4 شركات) ورياضي (3 شركات) وإعلاني وعلاقات عامة (10 شركات). بالطبع الأمر لم يكن محلا للنقد أو الاعتراض على المالك الحقيقي، بنشاطه القومي المعتاد والمعروف والذي هو فوق أي مجال للأخذ أو الرد، لكن أما وأن هذا المالك نزل من برجه العاجي ليتناول بالملكية أمورا مجتمعية، وهي هنا شأن يخص الإعلام وما شابه، هنا أصبح التقييم مهما، بل وواجبا، سعيا لتحسين الأداء ليس إلا.
ما ورد منافيا ومجافيا تماما للحقيقة، فالتعليم الذي هو أبرز الأنشطة الاجتماعية المعنية بالمجتمع، في حالة يجمع عليها القاصي والداني بالسوء والانحطاط إلى أقصى درجة.
أسباب ذلك ترجع أولا، إلى عدم توحيد سياسة التعليم؛ بسبب حال التبعثر التي يعيشه؛ بسبب تعدد أنواعه (عام/ خاص- مدني/ عسكري- تجريبي/ عادي- حكومي/ إرساليات-عادي/ أزهري- مناهج مصرية/ أجنبية). ثانيا، المشاكل التي تضرب المناهج، والتي هي ناتجة عن كوننا أصبحنا حقل تجارب لوزراء الحكومة. ثالثا، إدارة المؤسسات والأبنية التعليمية وبعضها متهالك وبعضها شحيح من الناحية الجغرافية. رابعا، أحوال المدرس الرثة. خامسا، وسائل التقويم المخترقة والضعيفة والمستباحة للغش… إلخ. كل ذلك أصبح واحدا من أهم أسباب أوضاع التعليم السيئة في مصر.
واحد من أهم مبررات بقاء تلك المشكلات دون علاج عدم إنفاق الحكومة على التعليم، كما أوصت جلسات الحوار الوطني، وذلك وفقا لما جاءت به مواد الدستور التي تنص مواده، على أن “التعليم حق لكل مواطن…. وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للتعليم، لا تقل عن 4% من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية….” (م 19). و”تكفل الدولة استقلال الجامعات…. وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للتعليم الجامعي، لا تقل عن 2% من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية….” (م 21). وكذلك “تكفل الدولة حرية البحث العلمي…. وتخصص له نسبة من الإنفاق الحكومي، لا تقل عن 1% من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية….” (م 23).
ولعل من أهم تداعيات كل المظاهر السلبية السابقة هو استشراء ظاهرة الدروس الخصوصية في البيوت والسناتر التي لا تعجز الدولة عن إغلاقها، لكنها تتركها نهشا لأموال أولياء الأمور والحط من مستوى التعليم، وكذلك التسرب من التعليم الذي بات ظاهرة كبيرة في الريف، والأمية المُقَنعَة الناتجة عن سوء العائد من العملية التعليمية؛ بسبب الحالة العلمية والبائسة للخريج.
أهم ما يبرهن على وضع التعليم البائس والفقير، ومن ثم زيف وكذب الخبر السابق، المتعلق بتنفيذ الحكومة لمخرجات التعليم بالحوار الوطني، غياب الوعي بفقه الأولويات لدى السلطة، والناتج عن منح الأولوية للكتل الأسمنتية المتعلقة بالعمران (العاصمة الإدارية والطرق والعلمين تحديدا) والطرق والنقل والمواصلات والمونوريل على حساب كل شيء. على حساب الهياكل التعليمية الرثة، وفقا لما وصف آنفا. وعلى حساب الهياكل الصحية، ولا سيما عقب تأجير المؤسسات العلاجية الحكومية، وقبلها هجرة الأطباء والطواقم العلاجية للخارج. وأخيرا وليس آخرا، ضياع الأنشطة الصناعية المهمة، وعلى رأسها صناعة الأسمدة التي يعجز بسببها كثير من الفلاحين، وعددهم إجمالا 5 ملايين فلاح عن الحصول على “شكارة الكيماوي”.
في جلسات الحوار الوطني أيضا، ناقش الحوار يوم 3 أغسطس 2023 إنشاء المجلس الوطني للتعليم والتدريب، والذي كان يتضمن رئاسته -من خلال مواد مشروع القانون المعد لذلك- هيئة مؤلفة من 26 قياديا على رأسهم رئيس الوزراء، و12 وزيرا ونائب وزير، و5 مسئولين من قيادات الجامعات والمراكز البحثية بصفتهم، و8 معينين من قبل رئيس الوزراء.!!!. المثير للعجب أنه رغم تغيير هذا الهيكل بإجماع المجتمعين في الحوار الوطني، بسبب استحواذ الرسميين على سدة القرار التعليمي في البلاد، أبت الحكومة، وأصرت في 22 أكتوبر الماضي على تمرير برلمان القائمة المطلقة الخانع آليا للسلطة، لما قالته قبل بدء الحوار الوطني، ضاربة بعرض الحائط مخرجات الحوار!!!
في بناء المدارس وتخصيص الأراضي لذلك، كما قال الحوار، سعت الحكومة لدعم هذا الملف من زاوية مغايرة تماما عن دعم الأبنية التعليمية الحكومية، إذ اتاحت الأرض لذلك عبر حصول القطاع الخاص عليها للاستثمار في العملية التعليمية، ولترجح كفة التعليم مقابل المال في مواجهة مجانية التعليم في مخالفة صريحة للدستور.
هناك مخرجات أخرى، لم تلتفت الحكومة أصلا لها، ومنها عقد مؤتمر سنوي للتعليم، وهو ما لم يحدث بعد مرور نحو عام ونصف العام على تلك التوصية، وكذلك توحيد سياسة التعليم المبعثرة على النحو المذكور سابقا. وفي المناهج، لم تُعِر الحكومة ولا وزارة التعليم أي اهتمام للتوصية الخامسة للحوار الوطني بإشراك المعاهد البحثية في وضع المناهج، وهو ما يتبين في حال الانفراد بوضع مواد وحذف ثانية وابتسار ثالثة في قرارات وزير التعليم المثيرة للجدل قبل بدء العام الدراسي 24/ 2025، ناهيك عن قراره بعودة البكالوريا منذ أسبوعين. فيما يتصل بالمخرج الثامن الخاص بدور وزارة الأوقاف في العملية التعليمية فهو غير موجود من الأساس. وبشأن التعليم الفني، فإن كل ما جاءت به المخرجات بشأن وضع استراتيجية وطنية لهذا النوع من التعليم وتشكيل اللجان لتطوير هذا التعليم، كل ذلك كان مجرد حبر على ورق، إذ لم تقم الحكومة بشأنه بأي شيء. وفيما يخص تعيين المعلمين الذي أوصى به الحوار الوطني، فإن جهود الحكومة رغم عملها في هذا الملف لا زالت قاصرة وبعيدة كل البعد عن المعدل العالمي، لكون المعدل المقر عام 2023 من قبل الجهاز المركز للتعبئة العامة والإحصاء معلم/ 27 تلميذا.
هكذا جاء الخبر الكاذب، وهكذا يتبين حقيقة الأوضاع على الأرض. كل هذه الأمور تثبت، بما لا يدع مجالا للشك، إن البلاد ليس أمامها بعض الوقت، حتى تنفذ مخرجات الحوار الوطني، بشكل ينم عن حسن النوايا، سواء في مجال التعليم أو غيره من المجالات.