منذ إعلان الجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان تحرير مدن وبلدات في ولاية الجزيرة من سيطرة قوات الدعم السريع على مدار الأسبوعين الماضيين، تداولت صحف ومواقع إخبارية سودانية مقاطع مصورة، لأفراد يرتدون الزي العسكري للجيش السوداني واتهامهم بأنهم منغمسون في عمليات تقوم على الانتقام، وبأنهم وراء الهجمات والعمليات الانتقامية التي تعرض لها المدنيين في قرى منطقة الكنابي في ولاية الجزيرة، وتظهر المقاطع عمليات قتل خارج القانون باستخدام الأسلحة النارية، والذبح، وإغراقهم في مياه النيل. وذلك وسط اتهامات داخلية وأممية للجيش.
وقال المرصد السوداني لحقوق الانسان في بيان على صفحته بموقع فيسبوك إن: “جرائم الكنابي هي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”، لافتاً أن المقاطع المصورة سجلت حالات قتل خارج إطار القانون تحت مزاعم التعاون مع قوات الدعم السريع.
كانت قرى منطقة الكنابي في ولاية الجزيرة تعرضت لانتهاكات واسعة النطاق، بعد أن سيطر الجيش على ود مدني في 12 من يناير الجاري، فيما يلقي الجيش الاتهامات ضد قوات السريع بمحاولة استغلال الأحداث وزعزعة ثقة السودانيين في تحركات الجيش السوداني الوطني لحمايتهم.
وأسفرت الهجمات على المدنيين في هذه القرى عن مقتل 34 شخصا، واختطاف 14 آخرين، وحرق المنازل، حيث تأتي هذه الموجة الجديدة من العنف والاعتداءات على المدنيين، في ظل احتفال سكان ولاية الجزيرة بتحريرهم من قبضة قوات الدعم السريع- حسب المرصد السوداني لحقوق الإنسان.
وفي خطاب أمام حشد جماهيري في بورتسودان الأسبوع الماضي، بعد عودته من جولة إفريقية قال رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان: “نحن لسنا ميليشيا.. نحن جيش لدينا نظم ولوائح”، مطالباً أهالي ضحايا المجازر التي ارتكبتها الدعم السريع في ولاية الجزيرة باللجوء إلى القانون، وعدم أخذ الحقوق بأيديهم.
وأكد البرهان: ” السودان يسع الجميع.. جميعنا شركاء في الوطن، ولن يهدأ لنا بال، إلا بحسم التمرد وعودة المواطنين إلى ديارهم”.
وأعلنت القوات المسلحة السودانية عدم مسئوليتها عن أي عمليات انتقامية أو قتل خارج القانون للمدنيين بحجة التعاون مع قوات الدعم السريع، وقالت في بيان صحفي: “هناك تجاوزات فردية ببعض المناطق بولاية الجزيرة عقب تطهير مدينة ود مدني”، مؤكدة تقيدها الصارم بالقانون الدولي، وحرصها على محاسبة كل من يتورط في أي تجاوزات تطال أي شخص بكنابي وقرى الولاية طبقاً للقانون.
وأكد الجيش السوداني متابعته للحالة الأمنية بالمنطقة بالتنسيق مع لجنة أمن ولاية الجزيرة، مشدداً على ضرورة “تفويت الفرصة على الجهات المتربصة بالبلاد التي تحاول استغلال أي تجاوزات فردية لإلصاقها بالقوات المسلحة، والقوات المساندة لها في الوقت الذي تلوذ فيه بالصمت حيال جرائم الحرب المستمرة والمروعة التي ترتكبها مليشيا آل دقلو الإرهابية حيال المدنيين” في إشارة لمحمد حمدان دقلو “حميدتي” قائد قوات الدعم السريع.
تبادل الاتهامات
واتهم حزب الأمة القومي في بيان صحفي، ما وصفه– بالاستهداف الممنهج – من قبل طيران القوات المسلحة لمناطق محددة، مؤكداً أنه “لا يفسر إلاّ في إطار الاستهداف الجهوي والقبلي والمناطقي، دون أي مبرر في ظل التجاهل التام لكل المطالب والنداءات من قبل قيادة القوات المسلحة بتجنيب المواطنين مخاطر القصف الجوي الذي يؤدي إلى إراقة مزيد من الدماء واستمرار الانتهاكات وسط المواطنين، ودون أي مراعاة للنتائج الكارثية لذلك.”
وحمل حزب الأمة المسئولية الكاملة عن الانتهاكات الواقعة في مناطق ولاية الجزيرة لقيادة القوات المسلحة، باعتبارها المسؤولة عن القوات والفصائل المسلحة في ولاية الجزيرة الداعمة والموالية للجيش.
وقالت قوات درع السودان– أحد الفصائل المسلحة الموالية للجيش السوداني في ولاية الجزيرة– في بيان صحفي: “طالعنا بيان منسوب لحزب الأمة القومي ينسب إلينا جرائم بحق مواطنين في كمبو طيبة، وعليه نوضح أنه اتهام عارٍ من الصحة ولا علاقة لقواتنا بهذه الجرائم”.
وأكد البيان، أن قوات درع السودان تلتزم بالقانون الدولي والإنساني وأخلاقيات الحرب، وليس لها عداء مع أي جهة غير مليشيا آل دقلو، لافتة أن قضية الكنابي خضعت لكثير من المزايدة والمتاجرة من الأحزاب والمكونات السياسية وأذيال المليشيا التي تسعى للتكسب عبرها، والاستهبال السياسي على المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية.
وقال حزب المؤتمر الشعبي: “مجموعة علي الحاج” استهداف سكان الكنابي بالقتل والتنكيل، مؤكداً في بيان صحفي: “هذه جرائم تطهير عرقي وإبادة جماعية صاحبها خطاب عنصري، يعبر عن أفظع أنواع الخطاب العنصري الذي تشهده هذه الحرب اللعينة”.
وأضاف حزب المؤتمر الشعبي، أن مسئولية أرواح المواطنين وسلامتهم هي حق على الدولة كفالته، وضبط القوات المتفلتة في ظل حمى الانتقام التي تستدعي النعرات العنصرية والقتل والتشريد.
وحمل حزب المؤتمر الشعبي، السلطة المسئولية السياسية والجنائية لكل جريمة يقترفها الخارجون عن القانون، وشدد على محاكمتهم محاكمة عادلة.
تحذيرات ومخاوف دولية
في بيان لمفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك، حذر من خطورة النزاع في السودان على المدنيين، بينما تشير التقارير إلى سيطرة الطابع العرقي والانتقامي على هجوم للجيش في ولاية الجزيرة بوسط البلاد.
وقال تورك: “الوضع بالنسبة للمدنيين في السودان يزداد يأسا، وهناك دلائل على ارتكاب جرائم حرب وجرائم فظيعة أخرى. أخشى أن الوضع يتجه الآن نحو مزيد من التفاقم”.
وأدانت تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية، بقيادة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، ما وصفته بالانتهاكات الجسيمة ضد المدنيين، وطالبت الجيش السوداني بتقديم المتورطين إلى العدالة.
ورفض حاكم إقليم دارفور وقائد حركة تحرير السودان، مني أركو مناوي، الذي تحارب قواته إلى جانب الجيش، وقوع هذه الجرائم، قائلا في تدوينه على موقع إكس: “يجب على الجيش محاسبة المسئولين عن هذه الانتهاكات”.
كانت وزارة الخارجية السودانية أكدت في بيان صحفي، على أن حادثة الاعتداء على مواطني الكنابي وكمبو طيبة بولاية الجزيرة ستخضع إلى تحقيق دقيق مؤكدة: “التزام حكومة السودان بمبادئ القانون الدولي الإنساني وعدم التسامح مع أي انتهاك لهذه القواعد أو الاعتداء على الأبرياء أو أخذ القانون باليد.
يذكر أن منطقة الكنابي في ولاية الجزيرة هي تجمعات سكنية عشوائية على أطراف المشروعات الزراعية الكبرى بولاية الجزيرة في وسط وشرق السودان، والتي تحولت مع الوقت إلى مجتمعات واسعة مأهولة بالسكان، معظم ساكنيها من العمال الزراعيين وأسرهم.
ورغم إعلان مجلس السيادة بقيادة الفريق البرهان عن تشكيل لجنة تحقيق في أعمال القتل والذبح والحرق التي شهدتها ولاية الجزيرة، عقب استرداد قواته لها من قبضة قوات الدعم السريع، لكن تبقى هذه اللجنة محل شكوك؛ بسبب خلفية لجان التحقيق الكثيرة السابقة التي لم تُعلن نتائجها، مثل لجنة التحقيق في انسحاب الجيش من مدينة ود مدني، ولجنة التحقيق في فض اعتصام القيادة العامة.
وتبقى العمليات الانتقامية القائمة على أساس عرقي الخطر الأكبر في ظل تصاعد القتال بين قوات الجيش السوداني والفصائل العسكرية الموالية له، وقوات الدعم السريع التي لا تزال تواجه اتهامات بتسهيل دخول أكثر من 200 ألف مقاتل من المرتزقة، بينما يدفع الشعب السوداني فاتورة تصاعد العنف وعدم وجود بدائل حقيقية أو فرص للحماية الدولية لتأمين حياة المدنيين وعدم تعريضهم للانتقام من أطراف الصراع.