كتبت- إيمان رشدي

في أحد الممرات الطويلة الباردة، تناثر عشرات “المتهمين” ينتظرون الدعوة إلى حجرات النيابة المتراصة في الممر، للتحقيق معهم، أو النظر في أوامر تجديد حبسهم.

تبادل المتهمون والجنود المرافقون لهم “السجائر والحكايات”، والدهشةــ ربماــ فهم “مدانون” أو على وشك الإدانة؛ بسبب “منشورات” أغلبها على فيس بوك، بينما القليلون منهم بسبب تغريدات على إكس.

كان “الفيس بوك ” جزءا من حراك يناير، أو هكذا أريد له، ومن إحدى صفحاته انطلقت الدعوات للتظاهر، حتى أن البعض صك وقتها  مصطلح “شباب الفيس بوك”، وكأنه حزب سياسي، ولعل البعض ما زال يذكر مزحة “جمال مبارك” الشهيرة بهذا الخصوص.

وخلال السنوات القليلة التالية ترسخ موقع “الفضاء الأزرق” الساحر في المشهد السياسي المصري، لكن نظرة على الآني تكشف تحولات مدهشة، ليس فقط في تحوله إلى “فضاء خطر”، بل ربما يمكن اعتباره “شريكاً” في قمع الحريات الرقمية التي باتت جزءا، لا ينفصل عن الحريات الشخصية والمدنية المكفولة بموجب القوانين والدساتير.

رحلة “الكذب”

مبكرا عرفت مصر تجريم النشر بسوء قصد لـ” أخبار كاذبة، أو أوراق مصطنعة أو مزورة أو منسوبة كذباً للغير، إذا كان من شأن هذه الأخبار، أن تكدر السلم العام، أو أن تلحق ضرراً بالمصلحة العامة”. وذلك حسب ما ورد في المادة 188 من قانون العقوبات لسنة 1937، وكانت طرق النشر التي أشار لها القانون وقتها، تتضمن “مطبوعات أو مخطوطات أو رسومات أو إعلانات أو صورا محفورة أو منقوشة أو رسوما يدوية أو فوتوغرافية أو إشارات رمزية أو غير ذلك من الأشياء أو الصور عامة”.

واعتبر القانون وقتها، أن “الكتابة والرسوم والصور والصور الشمسية والرموز وغيرها من طرق التمثيل علنية، إذا وزعت بغير تمييز على عدد من الناس، أو إذا عرضت بحيث يستطيع أن يراها من يكون في الطريق العام، أو أي مكان مطروق، أو إذا بيعت أو عرضت للبيع في أي مكان”، تندرج تحت هذا السقف.

تطور السياق التشريعي لجرائم نشر الأخبار الكاذبة عبر السنوات والحكومات المتعاقبة، في قانون العقوبات، وصولا إلى حكم لمحكمة جنح مدينة نصر ثان في يناير 2024.

 قضت المحكمة فيه بإدانة المتهم بارتكاب جريمة إذاعة أخبار كاذبة في الخارج، استنادًا إلى اتهام النيابة العامة له بارتكاب هذه الجريمة باستخدام حسابه الشخصي على موقع فيسبوك من داخل مصر، عبر نشره عدة مقالات على هذا الحساب، وأتاح الاطلاع عليها لجميع مستخدميه.

في 2024 أيضا، قررت محكمة جنايات القاهرة (الدائرة الثانية إرهاب) حبس  أسماء محمد زكريا لمدة ‎45 يومًا على ذمة التحقيقات في القضية رقم 2810 لسنة 2024 حصر أمن الدولة العليا، وتكرر التجديد لها أكثر من مرة؛ والسبب منشور على فيس بوك تناولت فيه أزمة انقطاع الكهرباء.

لكن ملاحقة “الأخبار الكاذبة” على فيس بوك بدأ قبل ذلك بفترة، وربما يمكن العودة بـ”الظاهرة” لعام 2018، التي شهدت عددا من القضايا، كان القاسم المشترك بينها هو النشر على فيس بوك.

5 قوانين تحاصر “منصات التواصل”

قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات
قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات

لم يكتف المشرع بإلحاق النشر على منصات التواصل الاجتماعي، بجرائم النشر التقليدية، وإنما حاصر فعل استخدام تلك المنصات بمواد تنتمي لخمسة قوانين، وأفرد لها مادة أثارت الكثير من الجدل قبل إقرارها في البرلمان، ضمن مواد مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد.

ففي جلسة البرلمان المنعقدة الأحد 12 يناير 2025ـ، وافق على منح النيابة العامة بعد الحصول على إذن مسبب من القاضي الجزئي، سلطة إصدار أوامر ضبط أو مراقبة أو الاطلاع على وسائل التواصل المختلفة، ومن بينها الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، أو البريد الإلكتروني أو الهواتف المحمولة، بشرط أن تكون مدة الإذن 30 يوما، كحد أقصى مع إمكانية التجديد لمدة أو مدد مماثلة.

والإرهاب أيضا

وبخلاف هذه المادة، يخضع من يرتكب فعل النشر على المنصات الإلكترونية لقانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015 المعدل بالقانون 15 لسنة 2020، والذي تنص المادة 35 منه على أنه “يُعاقب بغرامة لا تقل عن مائتي ألف جنيه، ولا تجاوز خمسمائة ألف جنيه كل من تعمد، بأية وسيلة كانت، نشر أو إذاعة أو عرض أو ترويج أخبار أو بيانات غير حقيقية عن أعمال إرهابية وقعت داخل البلاد…..”

وكذا لقانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018، الذي ألحق كل “موقع إلكتروني شخصي أو مدونة إلكترونية شخصية أو حساب إلكتروني شخصي، يبلغ عدد متابعيه خمسة آلاف متابع أو أكثر” بوسائل الإعلام المشمولة بحظر ” نشر أو بث أخبار كاذبة، أو ما يدعو أو يحرض على مخالفة القانون أو إلى العنف أو الكراهية، أو ينطوي على تمييز بين المواطنين، أو يدعو إلى العنصرية، أو يتضمن طعنا في أعراض الأفراد، أو سبا أو قذفا لهم، أو امتهانا للأديان السماوية أو للعقائد الدينية”.

هناك أيضا قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، بينما اشتمل قانون العقوبات العقوبات رقم 58 لسنة 1937 المعدل بالقانون 141 لسنة، 2021 ، على جزء خاص بـ “الجرائم التي تقع بواسطة الصحف وغيرها” تضمن قانون 2018، 4 مواد هي:

المادة 102 مكرر الخاصة بـ”الجنايات والجنح المضرة بأمن الحكومة من جهة الداخل”.

والمادة 80 (د) المتعلقة بـالجنايات والجنح المضرة بأمن الحكومة من جهة الخارج، والمادة 80 (ج) التي “تُعاقب بالسجن لكل من أذاع عمدًا في زمن الحرب أخبارًا أو بيانات أو إشاعات كاذبة مغرضة، أو عمد إلى دعاية مثيرة، وكان من شأن ذلك إلحاق الضرر بالاستعدادات الحربية للدفاع عن البلاد أو العمليات الحربية للقوات المسلحة، أو إثارة الفزع بين الناس أو إضعاف الجلد في الأمة”.

والمادة 18، وتنص على أنه “يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز سنة وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه، ولا تزيد على عشرين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من نشر بسوء قصد بإحدى الطرق المتقدم ذكرها أخباراً أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو أوراقاً مصطنعة أو مزورة أو منسوبة كذباً إلى الغير، إذا كان من شأن ذلك تكدير السلم العام أو إثارة الفزع بين الناس أو إلحاق الضرر بالمصلحة العامة”.

كيف تحول فضاء فيس بوك إلى منصات تتشارك القيود  

خطورة القمع الرقمي حول العالم
خطورة القمع الرقمي حول العالم

في البدء كانت منصات فيس بوك وغيرهاــ فضاءات للهروب من القيود، قبل أن تندمج فيس بوك مع  انستجرام، وتستحوذ على واتساب، لتتحول إلى العملاق الرقمي “ميتا” والتي كشف تقرير حديث عن حاجتها ” الملحة لإجراء إصلاحات شاملة على منصاتها لحماية المستخدمين المعرضين للخطر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. تسهم سياسات المنصة الحالية في تمكين القمع الرقمي المدعوم من الدولة”.

آليات الإسكات

التقرير الذي أعده الباحثان يوسف عبد الفتاح وسارة محمد، وأصدره مركز الشرق الأوسط للديموقراطية، تحت عنوان ” control+alt+delete” استغلال منصات التواصل الاجتماعي لإسكات المعارضة في الشرق الأوسط”، كشف كيف باتت الأنظمة السلطوية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تستخدم منصات “ميتا”؛ لتنفيذ القمع الداخلي والعابر للحدود، مستهدفة المعارضين والنشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان، بمن فيهم من يعيشون في الخارج.

ويتم هذا حسب التقرير من خلال تكتيكات تشمل المراقبة، والتي وصفها أحد النشطاء الذين التقاهم الباحثان، بأنها “أداة رئيسية للقمع”، وأعرب آخر عن شعوره، بأنه تحت المراقبة الدائمة، قائلًا: “الجميع يعرف أن حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي ورسائلهم النصية، وحتى تطبيقات مثل انستجرام وواتساب وسناب شات تخضع للمراقبة”.

وكذا الرقابة، حيث يتم تنفيذ حملات إبلاغ جماعية لإزالة المحتوى المعارض. وإغراق حسابات النشطاء بتعليقات سلبية من حسابات وهمية.

كما أبلغ بعض النشطاء عن إغلاق حساباتهم دون أي تفسير، مما يعكس تواطؤًا محتملًا بين “ميتا” والحكومات الإقليمية.

ومن التكتيكات المتبعة أيضا التحرش والسلوك غير الأصيل، حيث تستخدم “جيوش إلكترونية” حسابات وهمية وبوتات لنشر الدعاية، ومضايقة النشطاء، والإبلاغ عن حساباتهم.

وأخيرا هناك تكتيك استغلال الأطر القانونية الغامضة، حيث تعتمد الحكومات على قوانين غامضة،ـ مثل قوانين الجرائم الإلكترونية ومكافحة الإرهاب لتجريم “الأخبار الكاذبة” أو “إهانة المسؤولين”، مما يحد من حرية التعبير، وفي حالات عديدة، يتم اعتقال الأشخاص؛ بسبب منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، حتى في الدول التي غادروا منها.

وينتقل التقرير إلى النقطة الأخطر، وهي تلك الخاصة بـ” سياسات ميتا واستجابتها”، كاشفا عن وجود تحديات كبيرة مرتبطة باستجابة “ميتا” وآلياتها للتعامل مع القمع الرقمي والمضايقات على منصاتها، ومخاوف تتعلق بسياسات “ميتا” وإجراءاتها.

ويجمل تلك السياسات في خمس نقاط هي:

التفاوت في مراقبة المحتوى، حيث عبر النشطاء عن قلقهم بشأن الانحياز ضد المحتوى باللغة العربية، لا سيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

وأشار أحدهم، إلى أن “ميتا” تميل إلى إزالة المحتوى الفلسطيني؛ بسبب “الامتثال المفرط” لسياسات مراقبة المحتوى باللغة العربية، حيث يتم حذف المنشورات، استنادًا إلى عتبة منخفضة من الثقة مقارنة بالمحتوى بلغات أخرى مثل العبرية.

الحظر الخفي، ويقصد به تقليص نطاق وصول المحتوى السياسي أو الحساس، دون إشعار مسبق، الأمر الذي يثير مخاوف بشأن القمع التعسفي للمحتوى المرتبط بحقوق الإنسان أو النقد السياسي.

بطء آليات الإبلاغ والاستجابة، ما يجعل المستخدمين يواجهون صعوبات كبيرة في الإبلاغ عن الانتهاكات والحصول على استجابة من “ميتا”.

تضارب الأولويات، الأمر الذي فسره ناشط مصري وباحث في الأمن الرقمي، بأن منصات “ميتا” مصممة في المقام الأول لأغراض تجارية، وليست موجهة لحماية النشطاء.

وبالتالي، تتم إضافة ميزات جديدة قد تعرض المستخدمين للخطر دون إشعار كافٍ، وعادة ما تكون مفعّلة بشكل افتراضي، مما يزيد من التحديات الأمنية للنشطاء.

مخاوف حول مشاركة البيانات والخصوصية، وقد أبدى النشطاء قلقهم بشأن احتمالية مشاركة “ميتا” بيانات المستخدمين مع الحكومات، خاصة تلك التي لها تاريخ في استهداف النشطاء.

وأعرب أحد النشطاء عن اعتقاده، بأن “ميتا” تتعاون مع بعض الأنظمة، قائلًا: “إذا كنت في تونس، فسيتم إغلاق حسابي بناءً على طلب الحكومة”.

ولـ”ميتا” أساليب أخرى. إضافة للمخاوف السابقة، والسياسات المشار إليها تلجأ ميتا أحيانا لحذف الحسابات أو حجبها، فمثلا أعلنت عن حظر قنوات “RT” و”روسيا سيجودنيا” من جميع تطبيقاتها على مستوى العالم، بما في ذلك فيسبوك وانستجرام، وذلك ضمن إجراءات جديدة، تشمل جميع المنصات التابعة لها، وعللت ذلك، بأن الحظر يأتي في إطار التزام ميتا بسياسات مكافحة المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة”، مضيفة أن “هذه الخطوة تهدف إلى الحفاظ على نزاهة المحتوى على منصاتها وضمان عدم انتشار المعلومات التي قد تشكل تهديدا للأمن العالمي.

ميتا والقمع الرقمي.. خارج الشرق الأوسط

سياسات حرية التعبير والرأي عبر فيس بوك
سياسات حرية التعبير والرأي عبر فيس بوك

قد يكون مفاجئا القول، إن القمع الحكومي لحرية التعبير على فيس بوك ومنصات ميتا الأخرى ليس قاصرا على الشرق الأوسط وإفريقيا اللتين مثلا نطاق التقرير السابق الذكر.

في ألمانيا حذرت السلطات مواطنيها من إمكانية تعرضهم للاحتجاز والمحاكمة خلال رحلاتهم خارج أراضيها؛ بسبب مشاركة ما اسمتها “المقالات الحرجة” عبر فيس بوك.

وجاء ذلك عقب اعتقال السلطات التركية لمواطن ألماني من أصل تركي تخلى عن جنسيته التركيةــ بسبب منشورات قديمة له على فيس بوك، في حالة ليست فريدة من نوعها، حيث أدت سلسلة من عمليات اعتقال المواطنين الألمان “لأسباب سياسية” إلى أزمة خطيرة بين برلين وأنقرة. ومنذ ذلك الحين، تم إطلاق سراح معظم من تم اعتقالهم؛ ولكن ما زال هناك 7 مواطنين ألمان، وفقاً لما نشرته مواقع NDR وWDR وSüddeutsche Zeitung، في سجون تركيا لأسباب سياسية.